الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثالث: من شروط القاضي العقل
إذا كان لا يصح تولية الصبي القضاء فالمجنون لا يصح توليته من باب أولى، والعقل أحد الشروط المجمع عليها بين العلماء، لا يتصور الخلاف في ذلك، وقد عرف بعض العلماء العقل بأنه:"غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست منها" واختار ابن السبكي أحد كبار فقهاء الشافعية تعريفا له بأنه: "ملكة يتأتى بها درك المعلومات"1.
والعلماء مختلفون في محل العقل، فالشافعية يقولون إن محل العقل هو القلب، ويستندون في هذا إلى نصوص من القرآن والسنة، فمن القرآن قول الله
1 الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، ج2، ص17، دار الكتب العلمية، بيروت.
تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 1. وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 2 وقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، ومن السنة يستندون إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة" الحديث.
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن محل العقل الدماغ وليس القلب، وهو المعروف عن أبي حنيفة -رضي الله عنه3.
هل يكتفى بالعقل الذي يتحقق به التكليف؟
هل يكتفى في شرط العقل أن يوجد عند الشخص العقل الغريزي، أي: العقل التكليفي، الذي يناط به التكليف، أم لا بد أن يتحقق عنده عقل اكتسابي زيادة على العقل التكليفي؟.
اشترط الماوردي أحد أشهر علماء الشافعية زيادة العقل الاكتسابي، فلا يكفي عنده العقل الغريزي الذي هو مناط التكليف. قال الماوردي محددا مراده من شرط العقل:"ولا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة، بعيدا عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل"4.
فالماوردي -كما هو واضح من كلامه- يرى أن مجرد وجود العقل
1 سورة الحج، الآية رقم:46.
2 سورة الأعراف، الآية رقم:179.
3 الأشباه والنظائر لابن السبكي، ج2، ص17، 18.
4 الأحكام السلطانية للماوردي، ص72، دار التوفيقية بالقاهرة.
التكليفي عند الشخص لا يكفي؛ لأنه يمكن أن يكون عنده العقل التكليفي، لكنه مع هذا تحقق فيه صفة الغفلة، فالفطانة1 إذن على رأي الماوردي مطلوبة في القاضي، وهي ضد الغفلة.
والغفلة صفة تؤدي إلى أن ينخدع الشخص بتحسين الكلام، ولا يفطن إلى بعض الأمور التي تساعده في الحكم في القضية المطروحة أمامه، فلا بد من جودة العقل، وقوة إدراكه لمعاني الكلام.
والمالكية أيضًا يشترطون ما اشترطه الماوردي، وهو شرط الفطانة2. والبعض منهم يرى أنها من الصفات المستحبة وليست شرطا في صحة التولية، وبعض ثالث منهم أيضا يرى أن مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل شرط في صحة التوليه لهذا المنصب، والفطنة الموجبة للشهرة بها غير النادرة ينبغي أن تكون من الصفات المستحبة في القاضي، ويرى الرملي أحد علماء الشافعية أن اشتراط الماوردي في القاضي زيادة العقل الاكتسابي مخالف لفقهاء الشافعية، أي: إنهم لم يشترطوا ما اشترطه الماوردي من زيادة على العقل التكليفي.
ويرى بعض آخر من فقهاء الشافعية أن الذي اشترطه الماوردي لا بد منه، وأن مجرد العقل التكليفي الذي هو التمييز غير كاف في القاضي قطعا، وبين أن الرملي نفسه -وهو الذي لم يرض بما اشترطه الماوردي- اشترط أن يكون ذا يقظة تامة، وهذا مساو لما قاله الماوردي، فما قاله الماوردي ليس فيه زيادة
1 الفطنة والفطانة والفطن، كلها بمعنى واحد، وهي كلها مصدر للفعل فطن. المصباح المنير، مادة: فطن.
2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ج4، ص129، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.
على هذا1، ونجد أن ابن جماعة الفقيه الشافعي يقول عند كلامه عن شرط العقل في القاضي "ونعني بالعقل صحة التمييز وجودة الفطنة والذكاء"2. وفي فقه الشيعة الإمامية نجدهم يشترطون في القاضي كمال العقل3.
وجمهور العلماء لا يحددون للفطنة حدا معينا، لكن بعض فقهاء المالكية يرى أنه من المستحب أن لا يكون القاضي زائدا في جودة الذهن والرأي عن عادة الناس، وقد علل لهذا الرأي بأنه يخشى أن يحمله جودة رأيه وفكره على الحكم بين الناس بالفراسة4، وترك قانون الشريعة من طلب البينة "الشهود" وتجريحها وتعديلها، وطلب اليمين ممن توجهت إليه، وغير ذلك5.
ويجاب عن هذا بأنه على العكس من ذلك، فإن المطلوب أن يكون القاضي زائدا في الفطنة والدهاء عن عامة الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى سرعة الوصول إلى الحق في القضايا المطروحة أمامه، ويؤيد هذا أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أسرع في تولية كعب بن سور القضاء عندما ظهرت له زيادة فطنة عنده، فقد
1 مواهب الجليل، لشرح مختصر خليل، للخطاب، ج6، ص88، وحاشية أحمد بن عبد الرازق المعروف بالمغربي الرشيدي على شرح نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص238.
2 تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لمحمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، ص88، الطبعة الأولى، 1405هـ، 1985م.
3 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص6، منشورات دار الأضواء، بيروت.
4 الفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، كالاستدلال بشكل المرء ولونه، وقوله على خلقه. فيستدلون باتساع الجبين على الذكاء، وبعرض القفا على الغباء، وبضيق العين على الشح، وبغلظ الشفتين على الإسراف في الحب والبغض، تاريخ الأدب العربي للأستاذ أحمد حسن الزيات هامش، ص11.
5 الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه ج4، ص132.