الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في القصاص:
إذا وجدت آثار دماء على ملابس المتهم في جريمة القتل، وظهر من التحليل المعملي أن هذا الدم من فصيلة دم القتيل، أو وجدت بصمة المتهم على السلاح المستعمل في جريمة القتل، أو تعرف الكلب البوليسي على المتهم فأخرجه من وسط مجموعة من الناس بعد شم أثر من آثار القتيل، أو ثبت بالتسجيل الصوتي أن المتهم قد اعترف بقتل المجني عليه، فهل يجيز هذا للقاضي أن يحكم بالقصاص على المتهم بناء على أي قرينة من هذه القرائن وما شابهها؟
يرى بعض الفقهاء أنه يؤخذ بالقرائن -إذا كانت قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين- في إثبات جريمة القتل بدون احتياج إلى القسامة1، وأما إذا كانت القرائن ضعيفة فإنه يعمل بالقسامة.
ويرى آخرون عدم جواز العمل بالقرائن في إثبات جرائم القتل، ولو كانت القرائن قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين، بل يلجأ إلى القسامة وموجبها في صورة معينة2.
وممن يرى أن القرائن تصلح وسيلة من وسائل إثبات القصاص ابن الغرس من الحنفية3، وابن فرحون من المالكية4، وابن القيم الفقيه الحنبلي
1 سبق بيان معنى القسامة، وآراء العلماء فيها هل تصلح وسيلة إثبات أم لا.
2 سبق ذكر هذه الصورة وآراء العلماء فيها عند الكلام عن القسامة.
3 المجاني الزهرية على الفواكه البدرية، ص83.
4 تبصرة الحكام، ج2، ص113.
المشهور1.
ونقل الحنفية عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يرى أن النكول عن اليمين قرينة يؤخذ بها في دعوى القصاص في الأطراف، فيقضي القاضي بالقصاص في العمد في الأطراف عند نكول المدعى عليه عن اليمين، ويقضي بالدية في الخطأ، وأما صاحباه أبو يوسف ومحمد فيريان أنه في حالة النكول لا يقضي بالقصاص في النفس والطرف جميعا، ولكن يقضي بالأرش "التعويض" والدية، سواء أكانت الدعوى في القصاص في النفس أم في الأطراف2.
ويرى جمهور العلماء أن القرائن ليست وسيلة إثبات في القصاص ولو كانت قوية الدلالة وقاربت اليقين، والواجب حينئذ هو القسامة وموجبها في صورة معينة3.
أدلة القائلين بإثبات القصاص بالقرينة:
أولا: استدل هؤلاء بالأدلة التي استدلوا بها على أن القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وقالوا في توجيه الاستدلال بها أن هذه الأدلة عامة في جميع الحقوق فتشمل الحدود والقصاص.
1 الطرق الحكمية ص7.
2 البدائع، ج6، ص230، وتكملة فتح القدير لقاضي زاده، ج8، ص190.
3 محاضرات في علم القاضي، القرائن، النكول عن اليمين، القيافة، للدكتور عبد العال عطوة، ص53، والقرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي، للدكتور أنور دبور، ص170.
مناقشة ما استدلوا به: أجيب عن هذا بما يلي:
1-
لا يوجد في هذه الأدلة التي استدللتم بها على العمل بالقرائن ما يدل على أنها عامة حتى تشمل القصاص.
2-
القرائن في قضايا الدماء يكتنفها من الغموض والاحتمالات ما لا يكتنف غيرها، فالقرينة القوية في دلالتها قد تفيد القتل، لكنها لا تفيدنا ما إذا كان القتل عمدا أو شبه عمد، أو خطأ، مع أن هذه الأنواع الثلاثة مختلفة في أحكامها، بل لو سلمنا أنها تفيدنا أن القتل كان عمدا فإنها لا تفيدنا هل كان القتل دفاعا عن النفس، أو العرض، أو المال، أو كان غيلة وظلما، إلى غير ذلك من الاحتمالات، وعلى هذا فلا تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص؛ لأنه كالحدود يدرأ بالشبهات.
ثانيا: النكول عن اليمين في جرائم الاعتداء على الأطراف دليل على أن الناكل إما مقر بالجريمة، أو باذل، أي: سمحت نفسه وأباح جسمه للعقوبة، وإلا لحلف قياما بالواجب عليه ودفعا للضرر عن نفسه.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأن القضاء بالنكول في مسائل الدماء قضاء بقرينة ضعيفة؛ لأنه كما يحتمل أن يكون المدعى عليه قد امتنع عن اليمين احترازا عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون امتناعه تورعا عن اليمين الصادقة، ويحتمل أيضًا أن يكون بسبب الاشتباه، والقضاء بالقرينة وبخاصة الضعيفة لا يجوز في مسائل الدماء؛ لأنه يجب الاحتياط فيها أكثر من غيرها1.
1 محاضرات في علم القاضي، القرائن إلخ، مصدر سابق، ص54.
أدلة المانعين لإثبات القصاص بالقرينة:
أولا: ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشخط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"كبر، كبر" 1، وهو أحدث القوم، فتكلما، قال:"أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم"؟ ، فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد2، ولم نر؟ قال:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله3 النبي صلى الله عليه وسلم من عنده4.
وفي رواية متفق عليها: فقال لهم: "تأتون بالبينة على من قتله"؟ ، قالوا: ما لنا من بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه5 بمائة من إبل الصدقة6.
وجه الاستدلال بهذا الحديث أنه دل على أن دعوى القتل لا تثبت إلا بشاهدين أو بالقسامة إذا لم يوجد الشاهدان، وهذا ينفي أن القرينة وسيلة إثبات فيها.
1 أي: دع من هو أكبر منك سنا يتكلم.
2 أي: لم نشهد الجريمة وقت حدوثها.
3 أي: أعطى ديته.
4 نيل الأوطار، ج7، ص183.
5 أي: دفع ديته.
6 نيل الأوطار، ج7، ص183، 184.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأن الحديث لا يوجد فيه دليل على الاقتصار على الشاهدين في إثبات دعاوى القتل، وعلى هذا فلا يكون الحديث دالا على عدم اعتبار القرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
ثانيا: الاحتياط في الدماء مثل الاحتياط في الحدود بل أكثر منها وأولى، ولما كانت القرائن في الدماء في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، فإن هذا يعد شبهة يجب أن تكون دارئة للقصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات كما تدرأ بها الحدود1.
الرأي الراجح:
يغلب على الظن أن ما يراه الجمهور -وهو عدم القضاء بالقرينة في القصاص- هو الرأي الراجح، وأقوى ما يسند هذا الرأي هو أن القرينة في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، وهذا شبهة والقصاص يدرأ بالشبهات، وهذا دليل قوي، وأما ما استند إليه القائلون بأن القرينة تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص، فقد ضعف من قبل المخالفين، ولكن ينبغي أن نذكر ما قاله بعض العلماء المعاصرين، وهو أنه إذا كانت القرينة قاطعة بحيث لا تكون محتملة لأدنى شك، فإنها تكون وسيلة إثبات في جرائم القتل كما لو وجدت بصمات المتهم على السكين التي تمت بها جريمة القتل لكن بشرط، وهو إذا لم يستطع المتهم أن يضعف من دلالة هذه القرينة فيورث شبهة تنقذه من عقوبة القصاص، لكن هذا الرأي محل نظر.
1 محاضرات في علم القاضي، القرائن، إلخ، مصدر سابق، ص54، 55.