الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحديد الآراء:
مما سبق يمكن أن نقول إن العلماء مختلفون في الذكورة هل هي شرط في القاضي أم لا، على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وفيهم جمهور المالكية1، ومعهم الشافعية2 والحنابلة3 وزفر من الحنفية4، والشيعة الإمامية5 أن المرأة لا يجوز أن تتولى القضاء، ولو ولاها الحاكم هذا المنصب يكون آثما، وتأثم هي أيضا لرضاها بأمر لا يجوز6، ولو حكمت في أي قضية من القضايا، سواء أكانت من القضايا التي تصح شهادتها فيها كالأموال، والرضاع أم لا، لا ينفذ قضاؤها، فالذكورة عند الجمهور شرط للجواز وللصحة.
الرأي الثاني: ما يراه الحنفية -غير زفر- أنه لا يجوز تولية المرأة القضاة، لكن لو وليت هذا المنصب -مع إثمها وإثم من ولاها- فحكمت، فإنه ينفذ حكمها في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص.
1 مواهب الجليل بشرح مختصر خليل، للحطاب ج6، ص87.
2 نهاية المحتاج للرملي ج8، ص226، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني ج2، ص257، دار إحياء الكتب العربية بمصر.
3 المقنع، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ص326 دار الكتب العلمية بيروت.
4 نظام القضاء في الإسلام لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23، 24، مكتوبة بالآلة الكاتبة.
5 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، ج4، ص67. منشورات دار الأضواء - بيروت.
6يقول بعض العلماء: "من لا يصلح للقضاء تحرم توليته، ويحرم عليه أن يتولى ويحرم عليه أن يطلبه". كفاية الأخبار ج2، ص257.
فالحنفية يرون كما يرى الجمهور أن قضاء المرأة في الحدود والقصاص لا ينفذ، ولو كان ما قضت به موافقا للحق، أما إذا حكمت في غير الحدود والقصاص فينفذ حكمها، فالذكورة عند الحنفية -غير زفر- شرط جواز لا شرط صحة.
ومما يدل على أن الحنفية يرون عدم جواز تولية المرأة منصب القضاء، بجانب ما سبق أن نقلناه من عباراتهم في كتبهم، أن قاضي القضاة كان في أكثر العصور السابقة حنفيا، وكان من مهام منصبه تولية القضاة في جميع البلاد الإسلامية، ولو كان تولي المرأة القضاء جائزا لا إثم فيه عند الحنفية، لحدث ذلك ولو مرة في العصور السابقة1.
الرأي الثالث: ما يراه محمد بن جرير الطبري، وكذلك يراه الحسن البصري أحد كبار فقهاء التابعين، وابن حزم الظاهري، وابن القاسم من المالكية، أنه يجوز تولية المرأة القضاء، وينفذ قضاؤها في كل ما تصح فيه شهادتها، غير أن هؤلاء مختلفون في الأمور التي تصح شهادة المرأة فيها، فابن جرير وابن حزم يريان أن للمرأة أن تشهد في كل شيء، وأما ابن القاسم فيرى أن شهادتها لا تصلح إلا في القضايا الأموال، وما لا يطلع عليه الرجال غالبا، كالولادة، واستهلال المولود، وعيوب النساء التي تحت الثياب، كالرتق، والقرن2.
هذا وقد نسب الإمام الباجي أحد كبار فقهاء المالكية في القرن الخامس الهجري3 إلى محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة أنه قال: يجوز أن
1 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص28.
2 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص32، ومعنى الرتق انسداد محل الجماع من المرأة بلحم، ومعنى القرن انسداده بعظم.
3 ولد الباجي سنة 403هـ، وتوفى سنة 494هـ.
تكون المرأة قاضية على كل حال1. ولم أجد هذا الرأي المنسوب إلى محمد بن الحسن في كتب الحنفية التي اطلعت عليها.
الاستدلال لكل رأي:
الاستدلال للجمهور.
أما الجمهور وهم القائلون بأن الذكورة شرط في جواز تولية القضاء، وفي صحة هذه التولية، فقد احتجوا باستدلالات من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وادعوا الإجماع، واستدلوا أيضًا بالقياس وبالمعقول، فكان استدلالهم على الصورة الآتية:
الدليل الأول: الكتاب الكريم.
وجه الاستدلال:
ووجه الاستدلال بالآبة الكريمة، أن الآية أفادت حصر القوامة في الرجال،
1 المنتقى، شرح موطأ الإمام مالك، للإمام الباجي، ج5، ص182.
2 سورة النساء، الآية رقم:34.
وذلك لأن قواعد اللغة العربية تقتضي أن المبتدأ المعرف بلام الجنس1 يقصر على الخبر، مثل أن تقول الكرم التقوى، والإمام من قريش2، والشاعر شوقي وما ماثل هذا، والحصر هنا حصر إضافي أي: بالنسبة إلى النساء، فالمعنى: القوامة للرجال على النساء وليس العكس، وهذا يستلزم أن لا تجوز ولا تصح ولاية المرأة القضاء، وإلا كان للنساء قوامة على الرجال، وهذا يتعارض مع ما أفادته الآية الكريمة.
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بما يأتي:
أولا: أن المراد بالقوامة في الآية الكريمة ليس المراد بها القوامة العامة التي تشمل القضاء وغيره، بل المراد هنا قوامة خاصة، وهي قوامة رب الأسرة عليها، أي: في الولاية الأسرية التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: "والرجل في أهله راع هو مسئول عن رعيته" فيستأذن ويطاع، ويمتلك حق التأديب.
فالآية الكريمة -إذن- ليست في موضوع النزاع، والذي يدل على أن المراد بالقوامة في الآية هي قوامة رب الأسرة عليها: ثلاثة أمور:
الأمر الأول: سبب نزول الآية، فقد روي أن سعد بن الربيع نشزت امرأته فلطمها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم شاكية، فقال لها:"بينكما القصاص"
1 فائدة نحوية: علماء النحو يختلفون في أن التعريف باللام أو مجموع الألف واللام، ويختلفون أيضًا في أن "ال" حرف ثنائي همزته وصل، وهذا مذهب سيبويه، أو همزته قطع وهو رأي ابن مالك، ومن أجل هذا الخلاف يقال: الألف واللام، ويقال "ال" وهو قول من جعله ثنائيا همزته أصلية، فإنه يقول "ال" ولا يقول الألف واللام، كمالا نقول في "قد" القاف والدال، ويقال اللام وهو قول من جعل التعريف بها.
الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن السبكي، ج2، ص117.
2 نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لشمس الدين أحمد بن قودر، وهي تكملة فتح القدير للكمال بن الهمام، ج8، ص153، دار الفكر.
فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 1. فأمسك صلى الله عليه وسلم حتى نزل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "أردت أمرا وأراد الله غيره" 2. وهذا دليل على أن المراد بالقوامة قوامة الزوج على زوجته بالتأديب.
الأمر الثاني: تركيب الآية وسياقها، فإن فيها إشارة إلى المهر، والنفقات التي يتحملها الأزواج، بقوله تعالى في الآية:{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، وفيها إشارة إلى ما يجب للزوج على زوجته من طاعة وأمانة، وهو قوله تعالى:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} وفيها إشارة إلى السلطة المخولة للأزواج على زوجاتهم، وهو قوله تعالى:{وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} .
فهذا يدل على أن المراد بالقوامة في الآية قوامة الرجال على زوجاتهم، وليس توليتهم عليهن في الولايات العامة، كرياسة الدولة، وغيرهما من الولايات.
الأمر الثالث: صلاحية المرأة للولايات الخاصة، فالآية تفيد العموم إذن، ومما يبين أن المرأة تصلح للولايات الخاصة أنها تصلح وصية على اليتيم، وتصلح ناظرة مال الوقف؛ فلأنها قادرة على أن تقوم بأمور هذه الولاية جاز إسنادها إليها، فكذلك يجوز إسناد الولايات العامة إليها، ما دام مناط الحكم -وهو القدرة- متحققا، والحكم هو جواز وصحة الإسناد إليها، ولا تأثير لعموم الولاية أو خصوصها بعد أن تتحقق قدرة المرأة على ممارسة الولاية، ولولا أن الإجماع قد قام
1 سورة طه، الآية:114.
2 أحكام القرآن لابن العربي، ج1، ص415، وقد ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن روايات أخرى.
على عدم جواز تولي المرأة رياسة الدولة، وما هو بمثابتها كوزارة التفويض، وإمارة الإقليم، وورود النص في رياسة الدولة المانع لتولي المرأة إياها، لجاز أن تولى المرأة هذه الولايات العامة أيضًا، بدون فرق بين ولاية عامة وولاية خاصة1.
ثانيا: لو سلمنا جدلا أن الآية تفيد العموم، فإن الاستدلال بها يكون غير تام التقريب2؛ لأن الدعوى عدم جواز تولية المرأة القضاء مطلقا، وعدم صحة هذه التولية مطلقا كذلك، سواء كان توليها القضاء على الرجال، أم على النساء، أم على الأحداث، أم على هؤلاء جميعا، والاستدلال بالآية أنتج الدعوى في الشق الأول فقط، أي: ولايتها على الرجال دون النساء والأحداث، وعلماؤنا ينصون على أنه من المستحب أن تفرد النساء بقاض إذا كان طرفا الخصومة منهن3.
الجواب عن هذه المناقشات:
أولا: أما المناقشة بتخصيص العموم في الآية بسبب النزول، فأجيب عنها بأن التخصيص بسبب النزول لا يسلم إلا على رأي ضعيف، في علم أصول الفقه، وإنما الرأي القوي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو المعتمد عند الأصوليين كما أن حذف متعلق القوامة يؤذن بعمومها.
1 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص31، 32.
2 التقريب هو سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب، فإذا كان المطلوب غير لازم واللازم غير مطلوب لا يتم التقريب وقيل: التقريب هو سوق المقدمات على وجه يفيد المطلوب، وقيل: هو سوق الدليل على الوجه الذي يلزم المدعي، وقيل: هو جعل الدليل مطابقا للمدعي. التعريفات للجرجاني، ص37.
3 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص32، وأشار إلى حاشيتي قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي على المنهاج، ج4، ص352، وتبصرة الحكام، ج1، ص36، لابن فرحون.
ثانيا: وأما المناقشة بتخصيص العموم في الآية بما ورد فيها من أحكام تتعلق بولاية الزوج على زوجته، فأجيب عنها بأن ذلك من باب إفراد فرد من أفراد العام فلا يكون مخصصا للعام، ومعنى إفراد فرد من أفراد العام تخصيص بعض العام بالذكر، أو بعبارة أخرى النص على واحد مما تضمنه، وحكم عليه بالحكم الذي حكم به على العام وهذا لا يكون مخصصا للعام، عند جمهور العلماء، مثال ذلك، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب 1 دبغ فقد طهر" مع قوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة2: "ألا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديب طهور".
والدليل على أن إفراد فرد من أفراد العام، أي: تخصيص البعض بالذكر لا يكون مخصصا للعام، أن الحكم على الواحد لا ينافي الحكم على الكل؛ لأنه لا يوجد منافاة بين بعض الشيء وكله، بل الكل محتاج إلى بعضه، وإذا لم توجد المنافاة لا يوجد التخصيص؛ لأن المخصص لا بد أن يكون منافيا للعام3.
ثالثا: وأما المناقشة الثالثة فحاصلها يرجع إلى معارضة الدليل بقياس الولايات العامة على الولاية الخاصة، وهذا قياس باطل؛ لأن الولاية الخاصة -كالتصرف في ريع دار موقوفة، أو الإشراف على مال يتيم ورعاية شئونه- يكفي فيها مجرد القدرة، أما الولاية العامة فإنها تحتاج إلى قدرة عالية تتناسب مع كثرة أعباء هذه الولاية وتشعبها، وعمومها، ومن الواضح أن من يستطيع أن يقوم بعمل خاص
1 الإهاب: الجلد قبل الدبغ.
2 بين العلماء أن سبب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة لإحدى زوجاته وهي أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنهن جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم:"ألا استمتعتم بإهابها، فإن دباغ الأديم طهور" سبل السلام للصنعاني، ج1، ص30.
3 شرح الأسنوي على منهاج الوصول في علم الأصول، ج2، ص133.
قد لا يستطيع أن يقوم بالعمل العام، كالوزارة، والقضاء، وغيرهما.
إذن فمناط1 الحكم في الولاية الخاصة، وهو مجرد القدرة لا يوجد في الولاية العامة التي تحتاج إلى القدرة العالية، لا مجرد القدرة.
هذا إذا سلمنا أن مناط الحكم في تولي الولايات هو القدرة:
وهذا إذا سلمنا أن مناط الحكم في تولي الولايات هو القدرة، ولكننا لا نسلم هذا؛ لأن القدرة وصف مضطرب، ليس له مقاييس أو موازين مضبوطة، والمعهود في الشرع أن يكون مناط الحكم وصفا ظاهرا منضبطا، وإذا نظرنا في الحديث الشريف:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لنعرف الوصف الظاهر المنضبط الذي جعل مناطا لعدم الفلاح المانع من تولي المرأة الولاية نجد أنه الأنوثة التي يومئ إليها الحديث؛ لأن الأنوثة مظنة الإخلال أو عدم الكمال في القيام بأعباء الولاية.
وعلى هذا فإذا وجدت الأنوثة، فقد وجد المانع من تولي الولايات العامة، ومنها القضاء، ولولا أن الإجماع قد قام على جواز أن تتولى المرأة الولايات الخاصة اكتفاء بمجرد توافر القدرة فيها، لقلنا أيضا بعدم جواز أن تسند الولايات الخاصة إلى المرأة، ولكن الإجماع قام على جواز ذلك.
رابعا: وأما المناقشة بأن التقريب غير تام؛ لأن الدليل أنتج الأخص من الدعوى؛ لأنه أنتج عدم جواز أن تتولى المرأة القضاء بين الرجال فقط، دون النساء، والأحداث فهي غير صحيحة؛ لأن الدليل أنتج مساوي الدعوى، وذلك للمساواة بين الرجال والنساء والأحداث أمام القضاء؛ لأن لا يوجد فارق بين
1 مناط الحكم أي: علة الحكم.
الرجال وغيرهم في مجال الخصومة والتقاضي، ومؤاخذة القاضي لهم على الأمور التي تحدث منهم.
فإلحاق النساء والصبيان بالرجال إنما هو قياس في معنى الأصل، أو كما يسميه بعض العلماء: قياس جبلي، وإذا كان الدليل قد أنتج مساوي الدعوى كان التقريب تاما1.
الدليل الثاني السنة:
وى البخاري2 عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل3، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا بنت كسرى، قال:"لن يفلح قوم ولوا 4 أمرهم امرأة"، وزاد الترمذي5: فلما قدمت عائشة البصرة، ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمني الله تعالى به.
وجه الدلالة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" أنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بعدم فلاح من ولوا عليهم امرأة ولا
1 محاضرات في علم القضاء لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، مكتوبة بالآلة ص62، 63.
2 صحيح البخاري، ج9، ص55 مطبعة الفجالة.
3 أي: أيام معركة الجمل التي كانت بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومخالفيه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومن معهما.
4 القاعدة العربية إذا أسند الفعل المعتل الآخر بالألف وهو ما يسمى مقصورا إلى واو الجماعة يفتح ما قبل واو الجماعة، وإذا كان معتل الآخر بغير الألف يضم ما قبل الواو، والقرآن الكريم فيه قول الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} وهو ما بين هذه القاعدة.
5 الترمذي ج9، ص119.
شك أن عدم الفلاح ضرر، والضرر يجب اجتنابه لقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"، فيجب اجتناب ما يؤدي إليه، وهو تولية المرأة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب1.
وهذا يساوي تماما من حيث المآل ما لو قلنا: إن هذا اللفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في معنى النهي، فالجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى.
ولو صغنا هذا الدليل على هيئة قياس من الشكل الأول نقول: تولي المرأة الولايات العامة يؤدي إلى عدم الفلاح، وعدم الفلاح ضرر، فالنتيجة أن تولي المرأة الولاية العامة ضرر، والضرر ممنوع شرعا، ولا شك أن القضاء من الولايات العامة.
وسواء أكان خبرا محضا بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بعدم الفلاح إذا ولينا أمورنا امرأة، وحينئذ فالواحب علينا أن نبعد بأنفسنا عما يجر إلى عدم الفلاح، أم خبرا لفظا إنشاء معنى، بمعنى أن الجملة خبر من الناحية اللفظية، لكنها من حيث المعنى إنشاء؛ لأنها تنهانا عما يؤدي إلى عدم الفلاح وهو تولية المرأة أمورنا العامة، فإنه عام في جميع الولايات؛ لأن كلمة "أمرهم" صيغة من صيغ العموم، فإنها مفرد
1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص123، ونيل الأوطار للشوكاني. ج8، ص298.
مضاف لمعرفة1، فيشمل جميع أمور الأمة التي تحتاج إلى من يقوم بأمرها، فيكون شاملا للقضاء وسائر الولايات الأخرى، سواء أكانت ولايات عامة، أم ولايات خاصة، إلا أن الإجماع قام على استثناء الولايات الخاصة فجاز إسنادها للمرأة، فتبقى المرأة ممنوعة من الولايات العامة.
والسر في منع المرأة من الولايات العامة نقصان عقلها ودينها، وهي علة منصوصة في السنة الصحيحة2، وهو شيء من لوازم المرأة لا ينفك عنها؛ لأنه فطري.
1 صيغ العموم أو الألفاظ التي تفيد العموم كثيرة، منها لفظ "كل" ولفظ "جميع" فإنهما يدلان على العموم فيما يضافان إليه، مثل قوله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ومثل قولك: جميع من يأتيني في منزلي أكرمه.
ومن ألفاظ العموم الجمع المعرف باللام المفيدة للاستغراق والشمول مثل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . ومنهم المفرد المضاف إلى معرفة مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في البحر:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
ومنها الجمع المضاف مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} .
ومنها المفرد المعرف باللام مثل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وقوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
ومنها أسماء الشرط، مثل قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ومنها أسماء الاستفهام مثل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} .
ومنها النكرة في سياق النفي، أو في سياق النهي، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث" وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} .
أصول الفقه للأستاذ زكي الدين شعبان، ص322.
2 في الحديث: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن"، قلن: يا رسول الله، وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال:"أليس تمكث إحداكن الليالي لا تصوم ولا تصلي، وشهادة إحداكن على نصف شهادة الرجل"؟.
قد يثور سؤال: لماذا نسب النقص إلى النساء مع أنه ليس من فعلهن؟ وقد أجاب ابن العربي بقوله: "هذا من عدل الله يحط ما يشاء ويرفع ما يشاء، ويقضي ما أراد، ويمدح ويلوم، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون؛ وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل، ورتبها مراتب، فبين ذلك لنا فعلمنا، وآمنا به، وسلمناه.
أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص254.
فحصيلة هذا الدليل أنه ثبت في السنة نهي عن تولية المرأة الولايات العامة، وهو نهي لوصف لازم، وقد رجح علماء الأصول أن النهي يقتضي البطلان، وعلى هذا لا تجوز ولا تصح ولاية المرأة القضاء1.
مناقشة الدليل:
نوقش هذا الدليل بأنه ليس في محل النزاع أي: ليس في المسألة التي تختلف حولها؛ لأن الحديث وارد في رياسة الدولة، فيكون النهي المستفاد منه قاصرا على الولاية العظمى، فلا يشمل ولاية القضاء2، ويدل على أن الحديث وارد في الولاية العظمى أمران:
الأول سبب ورود الحديث، فنص الحديث يبين أنه قيل بمناسبة تولية "نوران" بنت كسرى منصب الملك في بلاد الفرس بعد موت أبيها.
وأجيب عن هذا بأن العبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب كما هو المرجح في علم أصول الفقه.
الثاني: أن كلمة "أمرهم" الواردة في الحديث الشريف يراد بها جميع شئون الأمة، والأمر الذي يعم جميع شئون الأمة هو رياسة الدولة؛ لأنها التي تستمد منها الأمة سائر الولايات، فيكون المنع مقصورا على رياسة الدولة.
وأجيب على هذا بأن كلمة "أمرهم" مفرد مضاف إلى معرفة، والمفرد المضاف إلى معرفة صيغة من صيغ العموم، كما هو الراجح عند علماء الأصول،
1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص33.
2 المحلى، لابن حزم، ج9، ص429، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
وهو مذهب أكثر العلماء، وعلى هذا فكأن الحديث قال: لن يفلح قوم ولوا رياسة الدولة امرأة، ولن يفلح قوم ولوا الوزارة امرأة، ولن يفلح قوم ولوا القضاء امرأة، وهكذا سائر الولايات العامة، كإمارة البلاد، وقيادة الجيش، وما ماثل هذا1.
الدليل الثالث الإجماع:
دعى أصحاب هذا الرأي الإجماع2 على منع المرأة من تولي القضاء. وقالوا: قبل أن يعرف خلاف في مسألة قضاء المرأة كان الإجماع منعقدا على عدم جواز توليتها هذا المنصب وعدم صحة التولية، فلا يعتد بخلاف من خالف بعد ذلك، قال تبارك وتعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 3.
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بما يأتي:
أولا: أن الإجماع لا يمكن تحققه، وعلى فرض أنخ ممكن التحقيق، فلا يمكن لنا أن نعلم بحدوثه؛ لأن من المحتمل أن يكون هناك مخالف لم نعلمه، ومن أين لنا أن ابن جرير الطبري، وابن القاسم، وابن حزم، والحنفية غير مسبوقين بما ذهبوا إليه؟
ما أجيب به عن المناقشة:
أجيب عن هذه المناقشة بأن علماء الأصول قد أثبتوا أن الإجماع ممكن
1 محاضرات في علم القضاء، مصر سابق، ص66.
2 الإجماع -كما عرفه علماء أصول الفقه- هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر غير عصر رسول الله على حكم شرعي، والإجماع حجة شرعية، وهو المصدر الثالث بعد الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجتمع أمتي على ضلالة".
3 سورة النساء، الآية:115.
التحقق، وأنه يمكن الاطلاع عليه، فهذه القضية قد حسمها علم أصول الفقه.
وبعد بذل الجهد في البحث والتحري عن المخالف لرأي الجمهور لم نعثر إلا على قول بالجواز منسوب إلى ابن جرير الطبري، وقد ثبت عدم صحة النقل عن ابن جرير1.
رد على الإجابة:
يمكن أن نرد على هذه الإجابة بأنه نقل ابن عبد السلام من علماء المالكية أن الحسن البصري قال بإجازة ولاية المرأة القضاء مطلقا، وثبت عن علماء موثوق بهم نسبة القول بجواز تولية المرأة القضاء إلى ابن جرير، ومن المستبعد أن يكون الحسن وابن جرير خالفا أمرا مجمعا عليه، وثبت أيضا عن ابن القاسم وابن حزم أنهما قالا برأي ابن جرير الطبري والحسن البصري، فابن جرير الطبري مسبوق هو وابن القاسم، وابن حزم بالحسن البصري الذي نسبه إليه ابن عبد السلام من المالكية القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء2.
كما أنه ثبت النقل عن ابن جرير أنه قال بجواز أن تتولى المرأة القضاء وما أثير حول صحة هذه النسبة إلى ابن جرير لم يثبت، وثبت صحة نسبة رأي ابن جرير إليه.
ثانيا: نوقش الاستدلال بالإجماع أيضا بأنه على التسليم بأن الإجماع حجة شرعية، وأنه يمكن تحققه فإن الإجماع المدعى لم يصح، أي: لم يثبت إجماع على
1 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص63.
2 مواهب الجليل، بشرح مختصر خليل، للحطاب، ج6، ص87، 88.
عدم تولي المرأة الولايات العامة؛ لأنه ثبت أن السيدة عائشة رضي الله عنها قد تولت قيادة الجيش وتزعمت الثورة ضد علي بن أبي طالب، ومعها من خيرة الصحابة أمثال الزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وطلحة بن عبيد الله ولم ينكروا عليها.
فهذا دليل على عدم صحة دعوى الإجماع، ويدل في نفس الوقت على جواز تولية المرأة القضاء؛ لأن القضاء أقل خطرا، وأدنى إلى تصون المرأة من قيادة الجيش، وتزعم الثورات1.
ما أجيب به عن هذه المناقشة:
أجيب عن هذه المناقشة بأن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- لم تخرج زعيمة لثورة، أو قائدة لجيش.
أما أنها لم تخرج زعيمة لثورة، فيدل عليه أنه لم ينقل أحد من المؤرخين أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة.
أما أنها لم تكن قائدة لجيش؛ فلأن الثابت من كتب التاريخ أنها خرجت بتأثير جماعة يتزعمهم طلحة والزبير، أرادوا أن يوفقوا بين الناس، ويزيلوا ما بينهم من أسباب الخلاف بما في ذلك أمر قتلة عثمان، ورأوا أن وجود السيدة عائشة معهم، وهي أم المؤمنين، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يؤدي إلى انضمام الناس إليهم، وأقنعوها بأن في خروجها إصلاحا بين الناس فخرجت لذلك. يقول ابن العربي المفسر المعروف في كتابه أحكام القرآن: "وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها
1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص35.
إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 1، وبقوله2:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3، وكاد الصلح أن يتم بين الفريقين المتنازعين، ولكن الأمور تطورت إلى غير ما يرجون، بفعل دعاة الفتنة من قتلة عثمان -رضي الله تعالى عنه، الذي خافوا أن يدفعوا إلى القتل إذا تم الصلح بين الفريقين.
كان خروج عائشة اجتهادا منها، وقد ثبت رجوعها عن اجتهادها:
على أن خروج السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- كان اجتهادا منها، وقد ثبت أنها رجعت عن اجتهادها، وخطأت نفسها في ذلك، فلا حجة في فعلها حتى لو فرضنا جدلا أنها كانت قائدة لجيش، روى الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني، قال: قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا السير من العهد الذي عهد إليكن -يشير إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 4، فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قالت: والله إنك -ما علمت- لقوال بالحق، قال:"الحمد لله الذي قضي لي على لسانك"5.
الدليل الرابع: القياس
الإجماع قام على عدم جواز أن تتولى المرأة رياسة الدولة، استنادا لحديث:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وطبيعة المرأة تؤيد هذا، فهي بحكم غريزة
1 سورة النساء، آية رقم:114.
2 سورة الحجرات، آية رقم:9.
3 أحكام القرآن لابن العربي، المجلد3، ص36.
4 سورة الأحزاب، الآية 33.
5 فتح الباري لابن حجر، ج16، ص166، وما بعدها، ومحاضرات في علم القضا، مصدر سابق، ص69-71.
الأمومة فيها عاطفية سريعة التأثر، سهلة الانقياد، وبحكم ما يعتريها من الأمور الطبيعية الخاصة بالنساء، من الحيض، والحمل، والولادة على مر الشهور، والأعوام، أضعف من أن تصل إلى الرأي الصائب الذي يحتاج إلى الاجتهاد وإعمال الفكر وتدافع عنه، وتواجه المشاكل بقدم ثابتة وقلب جريء، فيقاس القضاء على رياسة الدولة، بجامع أن كلا منهما ولاية عامة، فتكون ممنوعة من تولي القضاء، كما أنها ممنوعة من تولي رياسة الدولة.
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بأن الأنوثة تصلح علة تمنع المرأة من تولي رياسة الدولة؛ لأن هذا المنصب يحتاج شاغله إلى الحزم والعزم، والإقدام والهيبة، وهي أمور لا تتوافر للمرأة غالبا، بل إننا نجد بعض القادة من الرجال تنهار أعصابهم إذا تعرضوا لموقف صعب من المواقف التي تتعرض لها الدول والشعوب، فكيف إذا تعرضت المرأة لمثل ذلك.
ولكن الأنوثة في جانب القضاء لا تصلح أن تكون علة لمنع المرأة من تولي هذا المنصب، بل الأنوثة وصف طردي لا تأثير له، إذ قد ثبت بالإجماع -ولا أقل من اتفاق الخصوم- أن الأنوثة لا تأثير لها في الولاية الخاصة، كالوصاية على اليتيم، أو الولاية على الوقف فكذلك القضاء؛ لأن مناط الحكم هو القدرة على الولاية دون نظر إلى عموم أو خصوص1.
ما أجيب عن هذه المناقشة:
أجيب عن هذه المناقشة بأمرين:
1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص36.
الأمر الأول: أن الأنوثة مظنة الإخلال، أو عدم قيام المرأة قياما كاملا بأعباء الولاية، والأنوثة موجودة في كل ولاية من الولايات العامة ومنها القضاء، فلا يجوز تولية المرأة أي ولاية من الولايات، ولولا أن الإجماع قد قام على استثناء بعض الولايات فجاز أن تتولى المرأة هذه الولايات التي قام الإجماع على جوازها اكتفاء بالقدرة فيها، لقلنا أيضا بأنه لا يجوز للمرأة تولي أي نوع من الولايات، وتخصيص العلة بدليل هو الراجح عند علماء الأصول1.
الأمر الثاني: أن القول بوجود الفارق بين ولاية القضاء ورياسة الدولة، وهو القدرة في ولاية القضاء دون رياسة الدولة -مع أن كلا منهما ولاية عامة- تحكم محض، والمساواة بين القضاء والوصاية على اليتيم نوع آخر من التحكم الذي لا يستند إلى دليل، وهذا مرفوض في البحث العلمي2.
الدليل الخامس: ربما كانت المرأة ذات جمال باهر، فتحدث فتنة، وربما كان كلامها فتنة فيحدث الممنوع شرعا، وما أدى إلى الممنوع ممنوع.
الدليل السادس: القضاء أكبر من حال الإمامة في الصلاة، ولما كان لا يجوز للمرأة أن تكون إمامة الرجال في الصلاة، مع جواز إمامة الفاسق، كان منعها من القضاء الذي لا يصح من الفاسق من باب أولى.
الدليل السابع: القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال فهو محتاج إلى
1 المصدر السابق، ص73.
2 المصدر السابق، ص73.
مخالطتهم والمرأة مأمورة بالتخدر فهي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال1.
الدليل الثامن: القضاء يحتاج إلى كمال الرأي، وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، وقد نبه الله عز وجل على نسيان النساء بقوله تبارك وتعالى في مقام الشهادة:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 2.
فالنساء - في الغالب- حتى لو كان بعضهن شديد الذكاء وأفضل من كثير من الرجال، هن معرضات للنسيان، وهذا مؤثر لا شك على استخدام الملكة العقلية، ولعل السبب في هذا ما يعتري المرأة من أمور غالب الظن أنها مؤثرة في قوة التذكر وكمال العقل، كالمرض الشهري، والحمل، والولادة، وما يصاحبهما من ثقل وآلام، وحمل لهموم الصغار ليلا ونهارا، وما يغلب في شأنها من قوة العاطفة التي يمكن أن تكون مؤثرا خطر عل كمال قدراتها العقلية حين الالتجاء إلى الملكة العقلية في حل المستعصي من المشكلات، والعويص من القضايا، فالعاطفة وشدتها يمكن أن تشوش على العاقل حتى لو كان حاد الذكاء شديد الفطنة.
الدليل التاسع: لو كانت المرأة تصلح لقضاء لثبت توليتها هذا المنصب في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عصر الخلفاء الراشدين، ولكن لم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاها القضاء، أو ولاية بلد من البلاد،
1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص157، ونهاية المحتاج للرملي، شرح منهاج الطالبين للنووي، ج8، ص226.
2 سورة البقرة، الآية 282.
ولا ولاها أحد من الخلفاء الراشدين ذلك، ولا من بعدهم، ولو جاز ذلك لما خلا منه الزمان غالبا1.
دليل رأي الحنفية:
أما الحنفية وهم القائلون بأن لا يجوز تولية المرأة القضاء، لكن لو وليت وحكمت في بعض القضايا، فإنه -مع إثم من ولاها- لا ينفذ قضاؤها إلا في الأمور التي تصح فيها شهادتها، مثل: مسائل الرضاع، والولادة، والأموال وما ماثل هذا، وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص، فقد استدلوا على عدم جواز توليتها القضاء بالأدلة التي استدل بها جمهور العلماء، وكان مقتضى هذا أن تكون هذه الأدلة أيضا دالة على عدم صحة توليها القضاء، إلا أنهم استدلوا على صحة قضائها في غير مسائل الحدود والقصاص، أي: نفاذ حكمها -مع إثم من ولاها- بأن القضاء يشارك الشهادة في باب الولاية، والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود والقصاص، فيصح أن تكون قاضية في غير الحدود والقصاص2.
مناقشة استدلال الحنفية:
أجيب عن هذا الاستدلال بأمرين:
الأول: أن الولاية في الشهادة تغاير الولاية في القضاء، وهذا يستلزم أن تكون الأهلية في الشهادة مغايرة للأهلية في القضاء.
فمع أن كلا من القضاء والشهادة ولاية إلا أن الولاية في القضاء عامة شاملة، والولاية في الشهادة ليس فيها العموم والشمول بل هي خاصة قاصرة،
1 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص63.
2 فتح القدير، ج7، ص292، 298، ولسان الحكام، ص24، أما قول الحنفية بأن لا ينفذ قضاء المرأة في القصاص والحدود فيستند إلى القياس الأولوي على الشهادة.
نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص41.
وليس كل من يصلح لتولي الأمور الخاصة صالحا لتولي الأمور العامة1.
وأيضا فإن ولاية القضاء تلزم الحق بدون واسطة، وأما ولاية الشهادة فلا تلزم إلا بواسطة حكم القاضي، فالفارق متحقق بين الولايتين، وإذا تحقق الفارق فلا يصح أن تبنى إحداهما على الأخرى2.
الثاني: أن أدلة جمهور العلماء أفادت نفي جواز أن تتولى المرأة القضاء، وهذا يستتبع نفي الصحة، فإذا كنتم أيها الحنفية ترون كما يرى جمهور العلماء عدم جواز تولي المرأة القضاء فإن هذا يستلزم أن يكون حكمها غير صحيح.
الرد على المناقشة:
أجيب عن الأمر الثاني بأن ما استدل به الجمهور غاية ما يفيد أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء والكلام، فيما لو وليت هذا المنصب وأثم موليها بذلك، أو حكمها خصمان، فقضت قضاء يوافق أحكام الشرع أكان ينفذ قضاؤها أم لا ينفذ؟ لم يقم دليل على عدم جواز التنفيذ بعد موافقة ما أنزل الله من الشرع، إلا إذا ثبت شرعا سلب أهليتها، ولا يوجد في الشرع، ما يسلب أهلية المرأة فليس في الشرع إلا نقصان عقلها، ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية، يؤيد هذا أنها تصلح شاهدة، وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى، ونقصان عقلها بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى جنس النساء فيجوز في الفرد خلافه، فالعلماء يصرحون بصدق أن تقول: الرجل خير من المرأة مع أنه يجوز أن تكون بعض أفراد النساء خيرا من بعض أفراد الرجال، ولهذا النقص الغريزي نسب -صلى الله
1 قد يكون عند بعض الأشخاص القدرة على إدارة متجر، أو مصنع، ومع هذا لا يصلح لتولي بعض الولايات العامة كرياسة الدولة، أو الوزارة أو غير ذلك من الولايات العامة.
2 محاضرات في علم القضاء، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص48.
عليه وسلم- لمن يوليهم عدم الفلاح فكان الحديث متعرضًا للمولين، ولهن بنقص الحال، وهذا حق لكن الكلام فيما لو وليت فقضت بالحق لماذا يبطل ذلك الحق1.
دليل من قال بجواز توليتها القضاء:
استدل لهذا الرأي بما يأتي:
الدليل الأول: الأصل2 هو أن كل من تكون عنده مقدرة الفصل في قضايا الناس، يكون حكمه جائزا، هذا هو أصل عام، أي: قاعدة كلية، وقد خصص الإجماع هذا الأصل العام، فأجمع العلماء على عدم جواز تولية المرأة رياسة الدولة، لوجود الحديث المفيد هذا الحكم، فيكون ما خصصه الإجماع هو المستثنى من هذا الأصل العام، ويبقى ما عداه على الحكم الأصل، وعلى هذا يصح للمرأة أن تتولى القضاء، ولا تعد أنوثتها مانعا؛ لأنها لا تؤثر في فهمها للحجج، وفصلها في الخصومات3.
مناقشة هذا الدليل:
أولا: المرأة غير قادرة على أن تفصل في الخصومات على الصورة الكاملة، للنقصان الطبيعي فيها؛ ولأنها تنساق كثيرا وراء العاطفة، ولتعرضها للأمور الطبيعية التي تخص النساء، من حيض، وحمل وولادة، وإرضاع، وهذا مما يؤثر على
1 فتح القدير، ج7، ص298.
2 كلمة أصل تستعمل في اللغة العربية بعدة معان، منها ما يبنى عليه غيره كما إذا قلنا: الأساس أصل الحائط، ومنها الدليل كقولنا: الأصل في وجوب الصلاة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ومنها القاعدة كقولنا: الأصل في الأشياء الإباحة.
3 بداية المجتهد، لابن رشد، ج2، ص564، 565، وتكملة المجموع لمحمد نجيب المطيعي شرح المهذب للشيرازي، ج19، ص911، وتبصرة الحكام لابن فرحون، بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص24.
قدرتها في فهم حجج المتخاصمين، وتكوين الحكم الكامل لديها، وطبيعتها تعرضها للنسيان، وهو ما قد يؤدي إلا أن يفوتها شيء من الأدلة أو وقائع القضية التي تنظرها.
ثانيا: هذا القول منقوض برياسة الدولة، إذ إن المرأة قد تكون لها القدرة على أن تقوم بأعباء هذا المنصب، ومع ذلك فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز لها أن تتولاه1.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن القائلين بالجواز استثنوا رياسة الدولة لوجود الإجماع على منعها من توليها، المستند إلى الحديث:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهذا نظير عود الاستثناء في قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فإن الجمهور الذين يرون عود الاستثناء على جميع الجمل السابقة عليه يرون في نفس الوقت عدم سقوط الحد؛ لأن الحد في القذف لا يسقط بالإجماع فكذلك هنا يمكن الرد بأن رياسة الدولة مستثناة من هذه القاعدة التي نقول بها بالإجماع استنادا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
الدليل الثاني: المرأة يجوز لها أن تكون مفتية، فيقاس القضاء على الإفتاء، بجامع أن كلا منهما مظهر للحكم الشرعي فيجوز أن تكون قاضية "المغني ج9، ص39".
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأنه قياس مع الفارق والقياس مع الفارق لا يصح، والفارق هنا من ناحيتين:
1 محاضرات في علم القضاء. مصدر سابق، ص74.
الناحية الأولى: أن القضاء ولاية، والفتيا ليست كذلك1؛ لأن الفتيا لا إلزام فيها، بخلاف القضاء فإنه ملزم للخصمين.
الناحية الثانية: أن المستفتي له أن يأخذ الفتوى وأن يدعها، بخلاف القضاء فإنه حكم ملزم.
ما أجيب به عن المناقشة:
أجيب عن هذه المناقشة بأن الفتوى أيضا قد تكون ملزمة، وذلك حين لا يكون هنالك إلا واحد يصلح للإفتاء، ولم يستثنوا هذه الحالة من أهلية المرأة للفتوى، مع أنها إذ ذاك ولاية، فالفتيا ولاية في الجملة هنا، أي: ولاية في بعض أجزاء المسألة التي نحن بصددها.
الرد على الجواب:
رد بعض العلماء بأن الإلزام هنا للضرورة، ومن المعروف أن الضرورة لها أحكام خاصة تخالف أحكام حالة الاختيار، وموضوع الخلاف مفروض في حالة الاختيار، ولهذا لو وجدت حالة الضرورة في قضاء المرأة، بأن ولاها سلطان ذو شوكة "قوة"، فإنه ينفذ قضاؤها، لئلا تتعطل مصالح الناس كما قال العلماء، وبهذا يظهر أن حالة الضرورة في قضاء المرأة هي حالة استثنائية2.
الدليل الثالث: قياس القضاء على الحسبة، وقد روي أن عمر بن الخطاب
1 معنى الولاية إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، فالولاية ظاهرة في القضاء، وأما الفتوى فليس فيها ولاية أصلا.
2 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص79.
رضي الله تعالى عنه ولى امرأة كان تدعى أم الشفاء ولاية الحسبة على السوق1، فيجوز تولية المرأة القضاء قياسا على الحسبة، بجامع أن كلا منهما ولاية عامة، فألأصل المقيس عليه هنا هو الحسبة، والفرع المقيس هو القضاء، والعلة الجامعة فيهما هي أن كلا منهما ولاية عامة، والحكم هو جواز تولي المرأة الحسبة فجاز بناء على هذا القياس توليتها القضاء. وقد استدل بهذا ابن حزم2. لكن هنا ملاحظة نحب أن نبينها هي أن غير ابن حزم استدل بهذا الأثر عن عمر على أنه استدلال بالقياس، فقاس القضاء على الحسبة، أما ابن حزم فمذهبه الفقهي والأصولي أن
1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة من وسائل إصلاح المجتمعات، وهو واجب لا بد من تأديته في المجتمع الإسلامي، وهو أحد الواجبات الكفائية، أي: التي إذا فعلها البعض سقط عن الباقين، لقول الله عز وجل:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فلا بد من وجود طائفة في المجتمع، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والحسبة هي أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإذا قام الشخص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير تعيين له من الدولة كان متطوعا بالحسبة ويسميه الفقهاء المتطوع، وأما إذا ما عينته الدولة لهذه الوظيفة يسمى محتسبا أو والي الحسبة، فالحسبة إذن وظيفة دينية شبه قضائية تقوم على فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع أن أفراد المجتمع الإسلامي كلهم الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالا لما أمر به الشرع، إلا أنه كان في بعض العصور الإسلامية يخصص لذلك موظف خاص يسمى المحتسب. يقول ابن خلدون عن الحسبة: وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له، فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك، مقدمة ابن خلدون، ص225.
والأثر المروي عن عمر بن الخطاب يقول إن عمر بن الخطاب ولى امرأة حسبة السوق، أي: تتولى وظيفة محتسبة، فيكون من مهمتها النظر في الخلافات التي تحدث بين الناس في السوق، كدعاوى الغش والتدليس، والتطفيف في الكيل.
لكن هذا الأثر المروي عن عمر لم يثبت كما بين العلماء وذكرناه في مناقشة هذا الدليل. بقي أن نقول إن وظيفة الحسبة يقوم بها في الفصل لحديث علماء الدين، ورجال الشرطة، ورجال حماية الآداب، ومفتشو التموين والصحة والمسئولون عن المكاييل والموازين. ورجال الشئون البلدية.
2 المحلى لابن حزم، ج9، ص429.
القياس ليس مصدرا من مصادر التشريع، وهو مذهب الظاهرية الذي ينتمي إليه ابن حزم، قال ابن حزم:"ولا يحل الحكم بقياس، ولا بالرأي، ولا بالاستحسان، ولا بقول أحد ممن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يوافق قرآنا أو سنة صحيحة؛ لأن كل ذلك حكم بغالب الظن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 1.
ولهذا فإن ابن حزم لم يسق هذا الأثر ليقيس القضاء على الحسبة، وإلا لكان وقع في خطأ هو استدلاله بالقياس مع أن القياس لا يستدل به الظاهرية، وإنما كانت عبارة ابن حزم في كتابه المحلى:"وجائز أن تلي المرأة الحكم وهو قول أبي حنيفة، وقد روي عن عمر بن الخطاب، أنه ولى الشفاء -امرأة من قومه- السوق"2.
وغالب الظن أن ابن حزم يرى أن المرأة التي يروى أن عمر بن الخطاب ولاها السوق، تولت القضاء والفصل في الخصومات التي تحدث بين أهل السوق. فلم يذكر ابن حزم هذا الأثر ليقيس القضاء على عمل المرأة التي روي أن عمر ولاها السوق، وإنما في غالب الظن هو يرى أن هذا العمل هو في حقيقته نوع من القضاء.
مناقشة الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بما يأتي:
1 المحلى، لابن حزم، ج9. ص363.
2 المصدر السابق، ح9، ص429.
أولا: أن فعل عمر ليس حجة؛ لأنه لا حجة لكلام أحد أو فعله سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو الراجح عند علماء الأصول، ولم يدع أحد من العلماء أنه لم يعرف لفعل عمر مخالف، حتى يكون إجماعا تثبت به الدعوى.
وقد علق بعض الباحثين1 على استدلال ابن حزم بهذا الأثر المروي عن عمر قائلا: ومن العجيب أن يستدل ابن حزم بفعل عمر مع أنه ينفي حجية رأي الصحابي، وأعجب من هذا أنه خالف عادته عند الاستدلال بهذا الأثر، فلم يذكر له سندا، أو درجة، وأعجب من العجب أن يستأنس هنا بقول أبي حنيفة مع أنه أوسعه في غير هذا الموضع تشنيعا، وتجريحا.
والأعجب من ذلك كله أنه يرى أن المرأة لا تزوج نفسها، ولا غيرها، ثم يرى هنا تقليدها القضاء لتزوج غيرها بمقتضى ولاية القضاء.
ونقول من الممكن أن يتولى عقد الزواج في حال المرأة التي لا ولي لها قاض رجل، ولا تتولاه المرأة إذا كانت قاضية، وهذا لا مشقة فيه.
ثانيا: سلمنا جدلا أن فعل عمر حجة، لكن هذا الأثر بالذات لم يثبت عنه، ولهذا يقول ابن العربي:"وروي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، وهذا لم صح، فلا تلتفتوا إليه، إنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث"2.
الدليل الرابع: أنه ثبت أن الشرع أعطى للمرأة حق الولاية على بيت زوجها، وقيامها على إدارته وتدبيره فيجوز توليتها القضاء قياسا على ولايتها على بيت زوجها، بجامع أن كلا منهما ولاية، روى أحمد، ومسلم عن ابن عمر أن
1 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة في محاضرات في علم القضاء، ص80.
2 أحكام القرآن لابن العربي، ص3 ث 1445، ونظام القضاء في الإسلام. مصدر سابق، ص39، ومحاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص80.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع، ومسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها" الحديث.
مناقشة الدليل:
أجيب عن هذا بأن ولايتها على بيت زوجها ولاية خاصة، أما ولاية القضاء فولاية عامة، فلا يصح القياس هنا.
الدليل الخامس: قياس القضاء على الشهادة، وبما أن الشهادة ثابتة للمرأة بنص القرآن الكريم، من قول الله تبارك وتعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1. فيثبت لها ولاية القضاء بطريق القياس.
مناقشة الدليل:
نوقش هذا الدليل بمثل ما نوقش به الدليل الرابع، أي: إنه لا يصح قياس ولاية القضاء على ولاية الشهادة؛ لأن ولاية القضاء عامة، وولاية الشهادة خاصة.
وبعد، فإنه لم يترجح لي رأي من آراء علمائنا في مسألة تولي المرأة منصب القضاء، إلا أنه لا يفوتني أن أقول إنني أرجو ألا أكون بعيدا عن الصواب إذا قلت إنه يصح تولية المرأة القضاء، في القضايا التي يكون طرفا الخصومة فيها من النساء، كالحوادث التي تحدث بينهن في مجالسهن الخاصة؛ لأن القضاء في الحقيقة هو إظهار الحكم الشرعي في قضية من القضايا، ولا أظن أن أحدًا يجادل في أن كلا من الرجل والمرأة يستويان في هذه الناحية، وغاية ما هناك أن القضاء فيه إلزام
1 سورة البقرة، الآية:282.
بخلاف إظهار الحكم الشرعي من المفتي مثلا، لكن يمكن أن نقول إن الإلزام بعد حكم القاضي إنما جاء من الشرع، لا من القاضي وواسطة التنفيذ هنا هي الحاكم.
وإذا قلنا بهذا الرأي فإننا نشترط شرطا هو أن يكون ذلك في غير مسائل القصاص والحدود؛ لأنه قد ثبت أن المرأة بتكوينها النفسي والعاطفي قد تضعف عن نظر قضية قتل، وقد نشرت صحيفة الاتحاد التي تصدر في "أبو ظبي"، يوم الثلاثاء الموافق 23 من فبراير سنة 1988، أن قاضية في روما أصيبت بالإغماء عند سماعها تفاصيل جريمة قتل رهيبة حدثت في إيطاليا، قام فيها المجرم بتقطيع أوصال المجني عليه قبل أن يفارق الحياة، ولك أن تتصور أيها القارئ ما يحدث في جلسة محاكمة عندما تصاب القاضية بالإغماء، فعدم تولي المرأة القضاء في قضايا القصاص يصون المرأة من أن تتعرض لموقف يهز وجدانها وعواطفها. وكذلك لا يسمح لها بالقضاء في قضايا الحدود؛ لأنه لا يصح لها عند جمهور العلماء أن تشهد فيها، فلا يصح لها أن تقضي بطريق الأولى، ولا نتصور أن تنظر المرأة قضية جريمة الزنا، ولا يؤدي سماعها لتفصيل وصف الشهود لوقوع الجريمة إلى إيذاء مشاعرها، وجرح أنوثتها، وخدش حيائها.