المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر: - النظام القضائي في الفقه الإسلامي

[محمد رأفت عثمان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تقديم البحث

- ‌التعريف بالقضاء:

- ‌مشروعية القضاء:

- ‌حكم قبول القضاء

- ‌مدخل

- ‌حكم طلب القضاء:

- ‌القضاء عند العرب قبل الإسلام:

- ‌حكام اشتهروا في الجاهلية:

- ‌القضاء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه:

- ‌كان منصب القضاء في عهد الرسول، يضاف إلى منصب الولاية العامة:

- ‌مرجع من يقوم بالقضاء:

- ‌القضاء في عصر الخلفاء الراشدين

- ‌مدخل

- ‌عمر أول من أنشأ بيت مال المسلمين:

- ‌الدائرة القضائية للقضاة أيام الخلفاء الراشدين:

- ‌طريقة اختيار القضاة:

- ‌مرجع القاضي في أحكامه:

- ‌اختيار القضاة، ووظيفة قاضي القضاة

- ‌مدخل

- ‌اختصاصات القاضي:

- ‌التحكيم:

- ‌رجوع أحد الخصمين عن التحكيم:

- ‌ما يجوز التحكيم فيه وما لا يجوز:

- ‌التحكيم في حد القذف والقصاص:

- ‌التحكيم بحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية

- ‌حكم الهدية للقاضي:

- ‌جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة:

- ‌حق التقاضي مكفول للجميع:

- ‌الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء وعزل القاضي وانعزاله

- ‌المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء

- ‌الشرط الأول: الإسلام

- ‌الشرط الثاني: البلوغ

- ‌الشرط الثالث: من شروط القاضي العقل

- ‌الشرط الرابع: الحرية

- ‌الشرط الخامس: الذكورة

- ‌مدخل

- ‌مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي:

- ‌رأي ابن جرير الطبري:

- ‌تحديد الآراء:

- ‌الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة

- ‌توضيح معنى العدالة عند العلماء

- ‌معنى التقوى:

- ‌الشرط السابع من شروط القاضي السمع:

- ‌الشرط الثامن البصر:

- ‌الشرط التاسع النطق:

- ‌الشرط العاشر الكفاية:

- ‌الشرط الحادي عشر الاجتهاد:

- ‌الشرط الثاني عشر: عند بعض العلماء

- ‌الشرط الثالث عشر: عند بعض العلماء

- ‌المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله

- ‌مدخل

- ‌ما يراه العلماء فيما إذا كانت صفة العدالة تتوافر في القاضي ثم ارتكب ما يخل بالعدالة، وتوجيه كل رأي:

- ‌عزل رئيس الدولة للقضاة:

- ‌الفصل الثاني: الدعوى ونظام الفصل فيها

- ‌بيان معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار والشهادة

- ‌مدخل

- ‌معنى المدعي والمدعى عليه:

- ‌حكم الدعوى:

- ‌شروط صحة الحكم في الدعوى

- ‌الشرط الأول: عند بعض العلماء حضور الخصم المدعي عليه

- ‌آراء العلماء في القضاء على الغائب

- ‌أدلة القائلين بجواز الحكم على الغائب:

- ‌أدلة المانعين للحكم على الغائب:

- ‌اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب:

- ‌شروط القضاء على الغائب عند القائلين به:

- ‌الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الثالث من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الرابع عند بعض الحنفية:

- ‌الشرط الخامس من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط السادس، الشرط السابع، الشرطب الثامن: كونها ملزمة: أن تكون في مجلس القضاء: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله

- ‌الشرط التاسع، الشرط العاشر، الشرط الحادي عشر: الشرط الثاني عشر: أن لا تكون بنذر لمخلوق: تعيين المدعي عليه: أن لا يكون المدعي أو المدعي عليه حربيا أن تكون الدعوى محققة

- ‌الشرط الثالث عشر: أن تكون الدعوى محققة

- ‌حكم الوكالة في الدعوى: تجوز بعوض وبغير عوض

- ‌اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية

- ‌هل يسقط الحق بتقادم الزمان

- ‌نظام الفصل في الدعوى

- ‌خطاب عمر لأبي موسى الأشعري

- ‌أدلة الأراء

- ‌مدخل

- ‌يكفي في اليمين الحلف بالله، أو صفة من صفاته:

- ‌تغليظ الحلف بالمكان والزمان:

- ‌أقسام حقوق الآدميين:

- ‌الفصل الثالث: وسائل الإثبات

- ‌مدخل

- ‌الوسيلة الأولى: الإقرار

- ‌معنى الإقرار

- ‌الفر ق بين الإقرار والشهادة والدعوى

- ‌أدلة اعتبار الإقرار:

- ‌أركان الإقرار، وشروط المقر

- ‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر:

- ‌شروط المقر له:

- ‌شرط المقر به

- ‌هل يشتطر أن يكون المقر به معلوما

- ‌الرجوع عن الإقرار:

- ‌هروب المقر أثناء تنفيذ الحد:

- ‌الفرق في الرجوع بين حق الله وحق الإنسان:

- ‌الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة

- ‌مدخل

- ‌تعريف الشهادة عند الفقهاء

- ‌مدخل

- ‌حكم الشهادة:

- ‌هل يشترط لفظ الشهادة عند الأداء:

- ‌شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض:

- ‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:

- ‌الخلاف في شهادة الصبيان على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم

- ‌مدخل

- ‌معنى العدل باطنا وظاهرا:

- ‌هل لا بد من التفسير في الجرح:

- ‌لا يقبل جرح الشهود من الخصم، رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد

- ‌هل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب

- ‌شهادة الأب لابنه والعكس، شهادة أحد الزوجين للأخر

- ‌شهادة الأخ لأخيه:

- ‌شهادة العدو على عدوه:

- ‌هل يشترط البصر في أداء الشهادة:

- ‌مراتب الشهادة:

- ‌رأي المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض في الأعراس ومساكن الطالبات، ونحو ذلك:

- ‌هل يشترط العدد في انفراد النساء بالشهادة:

- ‌رجوع الشهود عن الشهادة

- ‌مدخل

- ‌إن رجع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله:

- ‌تعارض البينتين من شخصين:

- ‌زيادة العدد في إحدى البينتين أو زيادة العدالة:

- ‌لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين:

- ‌الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات: نكول المدعى عليه عن اليمين:

- ‌الويسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد

- ‌الوسيلة الخامسة من وسائل الإثبات: يمين المدعي إذا نكل المدعى عليه

- ‌الوسيلة السادسة: القسامة

- ‌تعريف القسامة عند العلماء

- ‌مدخل

- ‌ما يجب بالقسامة، من يبدأ بالحلف في القسامة

- ‌متى تجب القسامة

- ‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة

- ‌الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة عند الجمهور

- ‌مدخل

- ‌تعريف القرينة:

- ‌أقسام القرينة من حيث دلالتها:

- ‌أقسام القرينة عند القانونيين:

- ‌آراء الفقهاء في حجية القرائن

- ‌مدخل

- ‌الرأي الراجح:

- ‌ما يشترط للعمل بالقرينة:

- ‌مجال القضاء بالقرائن:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في الحدود:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في القصاص:

- ‌عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن:

- ‌الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة

- ‌الوسيلة العاشرة: فضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه

- ‌الفصل الرابع: أصول في القضاء

- ‌الأصل الأول: العدل بين الخصمين

- ‌الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمن على من انكر، الأصل الثالث: حكم القاضي لا يجرم حلالا ولا يحل حراما

- ‌الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان

- ‌الأصل الخامس: لا يقبل القاضي هدية ممن له خصومة في الحال

- ‌الأصل السادس: لا يقضي القاضي لنفسه ولمن لا تقبل شهادته له

- ‌الأصل السابع: الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي

- ‌الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال

- ‌باب الفهارس:

الفصل: ‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:

‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:

إذا كان المسلم في سفر فمرض، وأراد أن يوصي مثلا برد الوديعة إلى صاحبها، ولا يوجد شاهد مسلم، كأن كان قد سافر إلى إحدى البلاد الأوروبية، للتعليم أو للتجارة، أو للعلاج، أو للسياحة، وليس معه إلا النصارى أو اليهود ممن يعرفهم، فأشهد على الوصية اثنين من هؤلاء النصارى أو اليهود، فهل تقبل شهادتهما على المسلم أم لا؟

للعلماء في هذه المسألة رأيان:

أحدهما: قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، وهذا الرأي يراه أبو موسى الأشعري، وحكي عن ابن عباس، ويراه شريح، وسعيد بن المسيب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، والظاهرية وغيرهم.

الرأي الثاني: لا تقبل شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، روي

ص: 336

هذا الرأي عن الحسن البصري، والزهري، وزيد بن أسلم، ويراه مالك، والشافعي1.

دليل الرأي الأول:

استدل أصحاب الرأي الأول بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} 2.

ووجه الدلالة واضح من الآية، فإن الله تبارك وتعالى بين أن الشهادة في الحال التي نتكلم فيها تكون من اثنين ذوي عدل من المؤمنين، أو شهادة آخرين من غير المؤمنين.

مناقشة هذا الاستدلال:

أجيب عن الاستدلال بالآية الكريمة بعدة إجابات؛ لأن المخالفين لهذا الرأي مختلفون في تخريج الآية على ثلاثة طرق:

الإجابة الأولى: أن المراد بقوله تبارك وتعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير قبيلتكم، وقد روي هذا عن الحسن البصري، وروي عن الزهري أيضًا.

1 الطرق الحكمية لابن القيم، وفتح القدير، ج7، ص417، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص172، شرح المحلى على المنهاج، وحاشيتا قليوبي وعميرة عليه، ج4، ص323.

2 سورة المائدة، الآية رقم:106.

ص: 337

الرد على الإجابة:

رد المخالفون بأن هذا القول لا يخفى بطلانه وفساده، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين، فالنص الكريم في أول الآية هو قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار، هذا مما لا شك فيه، والذي قال: من غير قبيلتكم زلة عالم، غفل عن تدبر الآية، فلم يخاطب الله تبارك وتعالى بهذا النص الكريم قبيلة معينة حتى يكون قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أيتها القبيلة.

الإجابة الثانية: أن الآية منسوخة، وهذا مروي عن زيد بن أسلم وغيره.

الرد على هذه الإجابة:

رد المخالفون بأن دعوى النسخ باطلة؛ لأنه يتضمن أن حكم الآية باطل، لا يحل العمل به، وأنه ليس من الدين، وهذا لا يقبل إلا إذا اعتمد على حجة صحيحة لا معارض لها، ولا يمكن لأحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية، مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ، وإلا فليس معه إلا مجرد الدعوى الباطلة.

ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن أنه لا منسوخ في المائدة، فقد صح عن السيدة عائشة رضي الله عنها، فيما يرويه جبير بن نفير أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه1.

1 مقارنة المذاهب في الفقه مصدر سابق، ص135.

ص: 338

ولو كان يجوز أن تقبل دعوى النسخ بلا حجة أو برهان لكان كل من احتج عليه بنص يقول: هو منسوخ.

الإجابة الثالثة: أن المراد بالشهادة في الآية: أيمان الوصي بالله تعالى للورثة، وليس المراد بها الشهادة المعروفة.

الرد على هذه الإجابة:

رد المخالفون بأن هذا القول باطل من عدة وجوه، وذكر ابن القيم ثلاثة عشر وجها، نذكر لك معظمها:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ولم يقل: أيمان بينكم، والمتعارف من كلمة الشهادة في القرآن والسنة إنما هو الشهادة المعروفة، فالحمل على غيرها خروج باللفظ عن ظاهره لغير دليل، أي: إن الأصل هو أن يكون الكلام على ظاهره؛ لأن القرآن الكريم خوطب به الناس جميعا، بحيث إن البدوي العادي يفهم المراد من القرآن بدون أن يكون وصل إلى درجة من العلم، فإذا أريد باللفظ غير الظاهر فلا بد أن تكون هناك قرينة تصرفه عن معناه الظاهر ولا قرينة هنا.

الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} واليمين لا يشترط فيها ذلك، فإن الكافر يصح أن يحلف أمام القاضي.

الوجه الثالث: أنه تعالى قيد ذلك بالضرب في الأرض "أي: السفر" فقال سبحانه: {أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وليس ذلك شرطا في اليمين.

ص: 339

الوجه الرابع: أنه تعالى قال في الآية: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} وهذا لا يقال في اليمين في هذه الأفعال، بل هو نظير قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} .

الوجه الخامس: أنه تعالى قال في الآيتين التاليتين للآية: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} .

فالله تبارك وتعالى قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ولم يقل أن يأتوا بالأيمان.

الوجه السادس: أنه تبارك وتعالى قال في الآية الثالثة: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فجعل سبحانه وتعالى الأيمان قسيما للشهادة، وهذا صريح في أنها غير الشهادة.

الوجه السابع: أن الشاهدين يحلفان بالله {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ولو كان المراد بها اليمين لكان المعنى: يحلفان بالله لا نكتم اليمين، وهذا لا معنى له قطعا، فإن اليمين لا تكتم، فكيف يقال لشخص: احلف أنك لا تكتم حلفك؟.

الوجه الثامن: أن الله تبارك وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ومن المعلوم أنه لا يصح أن يكون المعنى: أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت؛ لأن الموصي إنما يحتاج للشاهدين لا إلى اليمين.

ص: 340

الوجه التاسع: أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الذي حكم به وحكم به الصحابة بعده- هو تفسير للآية قطعا، وما عداه باطل، فوجب أن يرغب عنه.

اعتراض وجواب:

إذا كان يمكن الاعتراض بأن الله تبارك وتعالى سمى أيمان اللعان1 شهادة في قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، فالجواب عنه -كما بين ابن القيم- أن الله تبارك وتعالى سمى أيمان الزوج شهادة؛ لأنها قائمة مقام البينة المطلوبة في إثبات جريمة الزنا، ولذلك يجب رجم الزوجة إذا امتنعت عن الأيمان، وسمى أيمانها شهادة؛ لأنها في مقابلة شهادة الزوج.

وأيضًا فإن هذه اليمين خصت من بين الأيمان بلفظ الشهادة بالله تأكيدا لشأنها، وتعظيما لخطرها2.

1 إذا اتهم الزوج زوجته بجريمة الزنا، أو نفى ولدها منه، فإن القاضي يطالبه بالبينة "الشهود" وإلا أقيم عليه حد جريمة القذف لاتهامه لزوجته، وهو جلده ثمانون جلدة، وقد أعطاه الشرع حق اللعان حتى يدرأ العقوبة عنه، وكيفية اللعان أن يقول الزوج: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، أو نفي الولد، ويكرر ذلك أربع مرات، ويقول في المرة الخامسة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، وإذا أنكرت المرأة فلها حق اللعان، وتقول هي أيضًا أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أو نفي الولد، وتقول في المرة الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

2 الطرق الحكمية ص212، وإعلام الموقعين لابن القيم ج1، ص91، والروض المربع بحاشية العنقري ج3، ص420، 421، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، وكشاف القناع ج6، ص412.

ص: 341

دليل الرأي الثاني: القائل بمنع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر:

أدلة أصحاب هذا الرأي لا تخرج عما استدلوا به على منع شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض، وهي المسألة السابقة عن المسألة التي نتكلم فيها الآن، وقد سبق مناقشة ما استدلوا به، ويزاد هنا في الاستدلال على منع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر أن الشهادة من باب الولاية، والكافر ليس له ولاية على المسلم؛ لقول الله عز وجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، فالله نهانا عن أن يكون للكفار علينا سبيل.

الجواب عن هذا الدليل:

أجيب عن هذا بأن هذا النص الكريم غير متصل بسبيل الشهادة والقضاء، وإنما هو سبيل العزة والقهر والغلب1.

الرأي الرجح:

نرى أن الرأي القائل بصحة شهادة غير المسلم على المسلم في الوصية في السفر أولى بالقبول، لسلامة الاستدلال بالآية الكريمة التي اعتمد عليها أصحاب هذا الرأي، ولضعف ما استدل به المخالفون، وبهذا نكون انتهينا من الكلام عن الشرط الأول من شروط أداء الشهادة، وهو شرط الإسلام، ونواصل الكلام الآن عن بقية شروط أداء الشهادة.

الشرط الثاني من شروط أداء الشهادة: الحرية، وهذا الشرط قال به الفقهاء عندما كان الرق موجودا في عصورهم، لكن هذا الشرط عند القائلين به أصبح

1 مقارنة المذاهب في الفقه، مصدر سابق، ص135، 137.

ص: 342

شرطا علميا لا حقيقة له في الواقع الذي نعيشه، فلا تقبل شهادة العبد عند مالك وأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية، والعبد ليس أهلا للولاية.

ويرى أحمد بن حنبل، والظاهرية، وبعض فقهاء الشافعية أنه لا تشترط الحرية في الشاهد، فتجوز شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة وهو داخل فيها، قال تبارك وتعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والعبد من رجالنا، وقال عز وجل:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهو عدل، والعبد ما دام عدلا تقبل روايته وفتياه، وأخباره الدينية، فتقبل شهادته.

ولما رواه عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء "أي: جارية"، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "وكيف وقد زعمت ذلك"؟ ، رواه البخاري ومسلم.

وأيضًا فإن الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد إلا أن يثبت ذلك من كتاب أو سنة، أو إجماع1.

ونرى رجحان هذا الرأي؛ لأن الشهادة وإن كان فيها شبه بالولاية، لكنها ليست كالولاية من كل الوجوه، وعموم الأدلة يفيد قبول الشهادة من العبد والجارية.

الشرط الثالث من شروط أداء الشهادة: التكليف:

فلا تقبل شهادة المجنون بإجماع العلماء، وكذلك لا تقبل شهادة المعتوه وهو المختل العقل دون الجنون2.

وما دام شرط التكليف لا بد منه في الأداء فلا تقبل شهادة الصبي، لقول الله عز وجل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، والصبي ليس من رجالنا؛ ولأنه غير مقبول القول في حق نفسه، ففي حق غيره أولى؛ ولأنه غير كامل العقل3. فلا تقبل شهادته ولو لصبي مثله أو على صبي كما يقول جمهور العلماء.

1 بداية المجتهد، لابن رشد، ج2، ص502، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، والمغني ج11، ص416.

ص: 343