الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:
إذا كان المسلم في سفر فمرض، وأراد أن يوصي مثلا برد الوديعة إلى صاحبها، ولا يوجد شاهد مسلم، كأن كان قد سافر إلى إحدى البلاد الأوروبية، للتعليم أو للتجارة، أو للعلاج، أو للسياحة، وليس معه إلا النصارى أو اليهود ممن يعرفهم، فأشهد على الوصية اثنين من هؤلاء النصارى أو اليهود، فهل تقبل شهادتهما على المسلم أم لا؟
للعلماء في هذه المسألة رأيان:
أحدهما: قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، وهذا الرأي يراه أبو موسى الأشعري، وحكي عن ابن عباس، ويراه شريح، وسعيد بن المسيب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، والظاهرية وغيرهم.
الرأي الثاني: لا تقبل شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، روي
هذا الرأي عن الحسن البصري، والزهري، وزيد بن أسلم، ويراه مالك، والشافعي1.
دليل الرأي الأول:
استدل أصحاب الرأي الأول بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} 2.
ووجه الدلالة واضح من الآية، فإن الله تبارك وتعالى بين أن الشهادة في الحال التي نتكلم فيها تكون من اثنين ذوي عدل من المؤمنين، أو شهادة آخرين من غير المؤمنين.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن الاستدلال بالآية الكريمة بعدة إجابات؛ لأن المخالفين لهذا الرأي مختلفون في تخريج الآية على ثلاثة طرق:
الإجابة الأولى: أن المراد بقوله تبارك وتعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير قبيلتكم، وقد روي هذا عن الحسن البصري، وروي عن الزهري أيضًا.
1 الطرق الحكمية لابن القيم، وفتح القدير، ج7، ص417، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص172، شرح المحلى على المنهاج، وحاشيتا قليوبي وعميرة عليه، ج4، ص323.
2 سورة المائدة، الآية رقم:106.
الرد على الإجابة:
رد المخالفون بأن هذا القول لا يخفى بطلانه وفساده، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين، فالنص الكريم في أول الآية هو قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار، هذا مما لا شك فيه، والذي قال: من غير قبيلتكم زلة عالم، غفل عن تدبر الآية، فلم يخاطب الله تبارك وتعالى بهذا النص الكريم قبيلة معينة حتى يكون قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أيتها القبيلة.
الإجابة الثانية: أن الآية منسوخة، وهذا مروي عن زيد بن أسلم وغيره.
الرد على هذه الإجابة:
رد المخالفون بأن دعوى النسخ باطلة؛ لأنه يتضمن أن حكم الآية باطل، لا يحل العمل به، وأنه ليس من الدين، وهذا لا يقبل إلا إذا اعتمد على حجة صحيحة لا معارض لها، ولا يمكن لأحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية، مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ، وإلا فليس معه إلا مجرد الدعوى الباطلة.
ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن أنه لا منسوخ في المائدة، فقد صح عن السيدة عائشة رضي الله عنها، فيما يرويه جبير بن نفير أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه1.
1 مقارنة المذاهب في الفقه مصدر سابق، ص135.
ولو كان يجوز أن تقبل دعوى النسخ بلا حجة أو برهان لكان كل من احتج عليه بنص يقول: هو منسوخ.
الإجابة الثالثة: أن المراد بالشهادة في الآية: أيمان الوصي بالله تعالى للورثة، وليس المراد بها الشهادة المعروفة.
الرد على هذه الإجابة:
رد المخالفون بأن هذا القول باطل من عدة وجوه، وذكر ابن القيم ثلاثة عشر وجها، نذكر لك معظمها:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ولم يقل: أيمان بينكم، والمتعارف من كلمة الشهادة في القرآن والسنة إنما هو الشهادة المعروفة، فالحمل على غيرها خروج باللفظ عن ظاهره لغير دليل، أي: إن الأصل هو أن يكون الكلام على ظاهره؛ لأن القرآن الكريم خوطب به الناس جميعا، بحيث إن البدوي العادي يفهم المراد من القرآن بدون أن يكون وصل إلى درجة من العلم، فإذا أريد باللفظ غير الظاهر فلا بد أن تكون هناك قرينة تصرفه عن معناه الظاهر ولا قرينة هنا.
الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} واليمين لا يشترط فيها ذلك، فإن الكافر يصح أن يحلف أمام القاضي.
الوجه الثالث: أنه تعالى قيد ذلك بالضرب في الأرض "أي: السفر" فقال سبحانه: {أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وليس ذلك شرطا في اليمين.
الوجه الرابع: أنه تعالى قال في الآية: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} وهذا لا يقال في اليمين في هذه الأفعال، بل هو نظير قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} .
الوجه الخامس: أنه تعالى قال في الآيتين التاليتين للآية: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} .
فالله تبارك وتعالى قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ولم يقل أن يأتوا بالأيمان.
الوجه السادس: أنه تبارك وتعالى قال في الآية الثالثة: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فجعل سبحانه وتعالى الأيمان قسيما للشهادة، وهذا صريح في أنها غير الشهادة.
الوجه السابع: أن الشاهدين يحلفان بالله {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ولو كان المراد بها اليمين لكان المعنى: يحلفان بالله لا نكتم اليمين، وهذا لا معنى له قطعا، فإن اليمين لا تكتم، فكيف يقال لشخص: احلف أنك لا تكتم حلفك؟.
الوجه الثامن: أن الله تبارك وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ومن المعلوم أنه لا يصح أن يكون المعنى: أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت؛ لأن الموصي إنما يحتاج للشاهدين لا إلى اليمين.
الوجه التاسع: أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الذي حكم به وحكم به الصحابة بعده- هو تفسير للآية قطعا، وما عداه باطل، فوجب أن يرغب عنه.
اعتراض وجواب:
إذا كان يمكن الاعتراض بأن الله تبارك وتعالى سمى أيمان اللعان1 شهادة في قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، فالجواب عنه -كما بين ابن القيم- أن الله تبارك وتعالى سمى أيمان الزوج شهادة؛ لأنها قائمة مقام البينة المطلوبة في إثبات جريمة الزنا، ولذلك يجب رجم الزوجة إذا امتنعت عن الأيمان، وسمى أيمانها شهادة؛ لأنها في مقابلة شهادة الزوج.
وأيضًا فإن هذه اليمين خصت من بين الأيمان بلفظ الشهادة بالله تأكيدا لشأنها، وتعظيما لخطرها2.
1 إذا اتهم الزوج زوجته بجريمة الزنا، أو نفى ولدها منه، فإن القاضي يطالبه بالبينة "الشهود" وإلا أقيم عليه حد جريمة القذف لاتهامه لزوجته، وهو جلده ثمانون جلدة، وقد أعطاه الشرع حق اللعان حتى يدرأ العقوبة عنه، وكيفية اللعان أن يقول الزوج: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، أو نفي الولد، ويكرر ذلك أربع مرات، ويقول في المرة الخامسة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، وإذا أنكرت المرأة فلها حق اللعان، وتقول هي أيضًا أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أو نفي الولد، وتقول في المرة الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
2 الطرق الحكمية ص212، وإعلام الموقعين لابن القيم ج1، ص91، والروض المربع بحاشية العنقري ج3، ص420، 421، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، وكشاف القناع ج6، ص412.
دليل الرأي الثاني: القائل بمنع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر:
أدلة أصحاب هذا الرأي لا تخرج عما استدلوا به على منع شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض، وهي المسألة السابقة عن المسألة التي نتكلم فيها الآن، وقد سبق مناقشة ما استدلوا به، ويزاد هنا في الاستدلال على منع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر أن الشهادة من باب الولاية، والكافر ليس له ولاية على المسلم؛ لقول الله عز وجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، فالله نهانا عن أن يكون للكفار علينا سبيل.
الجواب عن هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن هذا النص الكريم غير متصل بسبيل الشهادة والقضاء، وإنما هو سبيل العزة والقهر والغلب1.
الرأي الرجح:
نرى أن الرأي القائل بصحة شهادة غير المسلم على المسلم في الوصية في السفر أولى بالقبول، لسلامة الاستدلال بالآية الكريمة التي اعتمد عليها أصحاب هذا الرأي، ولضعف ما استدل به المخالفون، وبهذا نكون انتهينا من الكلام عن الشرط الأول من شروط أداء الشهادة، وهو شرط الإسلام، ونواصل الكلام الآن عن بقية شروط أداء الشهادة.
الشرط الثاني من شروط أداء الشهادة: الحرية، وهذا الشرط قال به الفقهاء عندما كان الرق موجودا في عصورهم، لكن هذا الشرط عند القائلين به أصبح
1 مقارنة المذاهب في الفقه، مصدر سابق، ص135، 137.
شرطا علميا لا حقيقة له في الواقع الذي نعيشه، فلا تقبل شهادة العبد عند مالك وأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية، والعبد ليس أهلا للولاية.
ويرى أحمد بن حنبل، والظاهرية، وبعض فقهاء الشافعية أنه لا تشترط الحرية في الشاهد، فتجوز شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة وهو داخل فيها، قال تبارك وتعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والعبد من رجالنا، وقال عز وجل:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهو عدل، والعبد ما دام عدلا تقبل روايته وفتياه، وأخباره الدينية، فتقبل شهادته.
ولما رواه عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء "أي: جارية"، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "وكيف وقد زعمت ذلك"؟ ، رواه البخاري ومسلم.
وأيضًا فإن الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد إلا أن يثبت ذلك من كتاب أو سنة، أو إجماع1.
ونرى رجحان هذا الرأي؛ لأن الشهادة وإن كان فيها شبه بالولاية، لكنها ليست كالولاية من كل الوجوه، وعموم الأدلة يفيد قبول الشهادة من العبد والجارية.
الشرط الثالث من شروط أداء الشهادة: التكليف:
فلا تقبل شهادة المجنون بإجماع العلماء، وكذلك لا تقبل شهادة المعتوه وهو المختل العقل دون الجنون2.
وما دام شرط التكليف لا بد منه في الأداء فلا تقبل شهادة الصبي، لقول الله عز وجل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، والصبي ليس من رجالنا؛ ولأنه غير مقبول القول في حق نفسه، ففي حق غيره أولى؛ ولأنه غير كامل العقل3. فلا تقبل شهادته ولو لصبي مثله أو على صبي كما يقول جمهور العلماء.
1 بداية المجتهد، لابن رشد، ج2، ص502، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، والمغني ج11، ص416.