الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب:
مع أنه صح النقل عن أبي حنفية -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يرى أنه لا يقضي على الغائب بشيء، فإن فقهاء الحنفية قد اضطربت آراؤهم وبيانهم في مسائل الحكم للغائب وعليه، ولم ينقل عنهم أصل قوي ظاهر تبنى عليه الفروع بلا اضطراب ولا إشكال، كما قرر ذلك صاحب كتاب جامع الفصولين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، واستظهر أن القاضي عليه أن يتأمل في الوقائع التي تعرض عليه، ويحتاط للحقوق حتى لا تضيع، ويلاحظ الحرج الذي يمكن أن يحدث للمتخاصمين، ويقدر الضرورات، فيقضي بحسبها جوازا وفسادا وذكر مثالين لهذا:
المثال الأول: لو طلق الزوج زوجته عند العدول، ثم غاب الزوج عن البلد، ولا يعرف مكانه، أو كان مكانه معروفا، ولكن القاضي لا يستطيع إحضاره، ولا تستطيع الزوجة أن تسافر إليه هي أو وكيلها لبعده الشاسع، أو لأي مانع آخر.
المثال الثاني: لو غاب المدين وله نقد في البلد.
ويرى صاحب جامع الفصولين أنه في مثل هذين المثالين لو أقام الخصم البرهان الغائب، بحيث اطمأن قلب القاضي، وغلب على ظنه أنه حق لا تزوير فيه ولا حيلة، فينبغي للقاضي أن يحكم على الغائب أو له، وكذلك ينبغي للمفتي أن يفتي بجواز ذلك، دفعا للحرج عن الناس والضرورات، وصيانة للحقوق عن الضياع، خاصة وأن مسألة القضاء على الغائب من المسائل الظنية الاجتهادية، وذهب إلى جواز الحكم على الغائب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد،
وفيه روايتان عن فقهاء الحنفية ثم قال: "والأحوط أن ينصب عن الغائب وكيل يعرف أنه يراعي جانب الغائب، ولا يفرط في حقه"1.
الغائب عند المالكية:
بيّن فقهاء المالكية أن الغائب إما أن يكون قريب الغيبة، كما لو كانت المسافة بيننا وبينه تستغرق يومين أو ثلاثة "بوسائل المواصلات البدائية أي: بالحيوانات" وإما أن يكون بعيدا جدا، كالبعد بين تونس والمدينة المنورة.
فإذا كان قريب الغيبة فحكمه حكم الحاضر في سماع الدعوى عليه والبينة، ثم يرسل إليه القاضي يخبره إما أن يقدم إلى مقر القاضي، أو يوكل عنه وكيلا في الدعوى، فإذا لم يقدم ولا وكل عنه وكيلا حكم عليه القاضي.
وأما إن كان بعيد الغيبة جدا فالقاضي يقضي عليه بعد سماع الشهود وتزكيتهم بيمين القضاء من المدعي أن حقه ثابت على المدعى عليه، وأنه ما برأه به، ولا وكل الغائب شخصا يقضي هذا الحق عنه، ولا أحاله على أحد في جميع هذا الحق ولا بعضه.
وبين المالكية أن يمين القضاء واجبة لا يتم حكم القاضي إلا بها، كما هو المذهب عندهم2.
1 جامع الفصولين، لمحمود بن إسرائيل، الشهير بابن قاضي سماونة، ج1، ص43، طبعة أولى، والمجاني الزهرية على الفواكه البدرية لابن الغرس، ص96.
2 الشرح الصغير، ج5، ص24، 25، مطبعة صبيح.
الغائب عند الشافعية:
الغائب الذي يحكم عليه عند الشافعية نوعان:
النوع الأول: من كانت المسافة بين القاضي وبينه فوق مسافة العدوى، ويحددون مسافة العدوى بأنها المسافة التي لو خرج مبكرا1 لبلد القضاء لرجع إليها في يومه2 بعد فراغ زمن المخاصمة المعتدلة من دعوى، وجواب، وإقامة بينة حاضرة، وتعديلها، قالوا: والعبرة بسير الأثقال؛ لأنه منضبط3.
وقيل أن يكون بينه وبين القاضي مسافة القصر، وهي ثمانون كيلو مترا تقريبا، كالمسافة بين مكة وجدة، عندما كانت كذلك قبل أن تزحف المساكن من المدينتين، لكن المسافة الآن قد قلت عن ثمانين كيلو مترا بين جدة ومكة.
النوع الثاني: الحاضر في البلد لكنه توارى، أو تعزز، وعجز القاضي عن إحضاره، فهذا أيضًا يعد غائبا ويحكم القاضي عليه، لتعذر الوصول إليه، وإلا لاتخذ الناس ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق.
وأما غير هذين فلا تسمع الحجة ولا يحكم عليه إلا بحضوره، كما هو مبين في فقه الشافعية4.
وأكثر أهل العلم يرون أن الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمتنع من الحضور لا يقضي عليه قبل أن يحضر أمام القاضي؛ لأنه يمكن سؤاله، فلا يجوز الحكم عليه قبل سؤاله كالحاضر الذي يحضر مجلس القاضي، ولا يصح القياس على الغائب البعيد؛ لأن البعيد لا يتيسر سؤاله.
أما لو امتنع المدعى عليه من الحضور، أو توارى فيجوز القضاء عليه؛ لأنه تعذر حضوره وسؤاله أمام القاضي، فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد، بل هذا أولى؛ لأن الغائب البعيد معذور، وهذا لا عذر له5.
1 التبكير كما قال الشافعي إما أن يكون معناه الخروج عقب طلوع الفجر، وهذا أخذا مما قالواه في صلاة الجمعة، فإن التبكير فيها يدخل وقته من طلوع الفجر، أو يكون معناه التبكير في عرف الناس، وهو الخروج قبيل طلوع الشمس. الجمل على المنهج، ج5، ص364.
2 القدر الذي ينتهي به سفر الناس غالبه هو أوائل الليل.
3 سميت مسافة العدوى بهذا -كما قال بعض العلماء- لأن القاضي يعدي أي: يعين من طلب خصما منها على إحضاره، وقد علق على هذا بعض آخر من العلماء: "ولعل هذا تفسير باللازم، وإلا فمعنى أعدى: أزال العدوان، كما أن اشتكى أزال الشكوى، وفي المصباح: واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه أعانني ونصرني، فاستعدى طلب التقوية والنصرة، والاسم العدوى. قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى وال ليعديك على ظلمك، أي: ينتقم منه باعتدائه عليك، والفقهاء يقولون: إلى مسافة العدوى، وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعد يوم واحد، لما فيه من القوة والجلادة. حاشية الجمل على المنهج، ج5، ص364.
4 الغاية القصوى في دراية الفتوى، لعبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي، ج2، ص1012، وحاشية الجمل على شرح المنهج لزكريا الأنصاري، ج5، ص359، 360 مطبعة مصطفى محمد.
5 المغني، ج11، ص487.