الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آراء الفقهاء في حجية القرائن
مدخل
…
آراء الفقهاء في حجية القرائن:
اختلف الفقهاء في القرينة هل تعد وسيلة من وسائل الإثبات أم لا، على رأيين:
الرأي الأول: القرينة وسيلة إثبات، وهذا ما يراه جمهور الفقهاء، غير أنهم مختلفون في بعض الصور هل تصلح أن تكون وسيلة إثبات أم لا.
وممن قال بحجية القرينة بعض الحنفية كالزيلعي، وابن الغرس، والطرابلسي، وبعض المالكية كعبد المنعم بن الفرس، وابن فرحون، والمازري، وبعض الشافعية كالعز بن عبد السلام، وابن أبي الدم، وبعض فقهاء الحنابلة كابن القيم1.
الرأي الثالث: القرينة لا تصلح وسيلة من وسائل الإثبات، قال بهذا الرأي بعض الحنفية كالخير الرملي في الفتاوى الخيرية، والجصاص، وصاحب تكملة رد
1 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، ج3، ص229 والمجاني الزهرية، لمحمد صالح بن عبد الفتاح بن إبراهيم الجارم، على الفواكه البدرية، لمحمد بن محمد بن خليل المعروف بابن الغرس ص82، ومعين الحكام للطرابلسي ص161، وتبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك، ج2، ص113، وما بعدها، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج2، ص115-120، وأدب القضاء لابن أبي الدم، ج1، ص187، والطرق الحكمية لابن القيم، ص9، وما بعدها، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي، ج3، ص539، ومقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت ومحمد علي السايس، ص137 وما بعدها، ومنهاج الطالب في المقارنة بين المذاهب للدكتور عبد السميع إمام، ص242، ومن طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي -رحمه الله تعالى، ص75، ومحاضرات في علم القاضي، والقرائن وغيرهما للدكتور عبد العال عطوة، ص32، 44، والقرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي للدكتور أنور محمود دبور ص25.
المحتار وبعض المالكية كالقرافي1.
الاستدلال لكل رأي:
أدلة الجمهور:
أولا: قول الله تبارك وتعالى في سورة يوسف2: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
وجه الاستدلال أن أخوة يوسف أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم في ادعائهم أن يوسف أكله الذئب، لكن والدهم يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بعلامة تعارض ذلك، وهي سلامة قميص يوسف من التخريق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس قميصه ويسلم القميص فلا يتخرق.
ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 3.
1 أحكام القرآن للجصاص، ج3، ص171، والفروق للقرافي مع إدرار الشروق على أنواء الفروق لقاسم بن عبد الله الأنصاري، ج4، ص65، 110، دار المعرفة، بيروت، والأصول القضائية في المرافعات الشرعية للشيخ علي قراعة ص275، والقرائن ودورها في الإثبات للدكتور أنور محمود دبور، ص28، 29.
2 سورة يوسف، الآية رقم:18.
3 سورة يوسف، الآية رقم:26.
وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنها أفادت الحكم بالأمارات؛ لأنه توصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وما هذا إلا عمل بالأمارات وجعلها سببا للحكم، وهذا دليل على أنه يجوز أن يعمل بالقرينة ويعتمد عليها في الأحكام1.
قال ابن القيم: ذكر الله شهادة الشاهد ولم ينكرها، بل لم يعبه، بل حكاها مقرا لها.
وقد يعترض على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بأن هذا في شريعة أخرى غير شريعتنا فلا يلزمنا، وقد أجيب عن هذا بأن كل ما أنزل الله علينا فإنما أنزله لفائدة فيه ومنفعة، وقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 2 فآية يوسف صلاة الله عليه وسلامه مقتدى بها معمول عليها، وقد اتفق العلماء على أن شرع من قبلنا يكون شرعا لنا إذا كان قد سيق بطريق يفيد استحسانه وعدم إنكاره، فهو في هذه الحالة يصبح من باب التقريرات، والآية التي معنا من هذا القبيل3.
هذا، وقد اختلفت الروايات في الشاهد الذي قال:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فروي أنه طفل تكلم في المهد، قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: إنه رجل حكيم ذو عقل
1 من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص76.
2 سورة الأنعام، الآية رقم:9.
3 من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص81.
كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من أهل المرأة، قيل: إنه ابن عمها، قال السدي: وهذا القول الثاني هو الصحيح، وروي عن ابن عباس أنه كان رجلا من خاصة الملك.
قال القرطبي: إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات
…
وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع" ا. هـ1. وقد عقب ابن فرحون على ما قاله القرطبي قائلا: وفيما قاله القرطبي نظر؛ لأنه وإن كان طفلا فالحجة قائمة منه بإذن الله تعالى، أرشدنا على لسانه إلى التفطن والتيقظ، والنظر إلى الأمارات والعلامات التي يعلم بها صدق المحق وبطلان قول المبطل، ويكون ذلك أبلغ من الحجة من قول الكبير؛ لأن قول الكبير اجتهاد ورأي منه، ونطق الصغير من قبل الله تعالى. ا. هـ.2.
ثالثا: قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3.
وجه الدلالة: أن الرضا معنى يكون في النفس وهذا في الشهادة يكون نتيجة لما يظهر من أمارات، ويقوم من دلائل تبين صدق الشاهد أمام الحاكم. قال ابن العربي: "قال علماؤنا: هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات
1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج9، ص149، 150، 173، 174.
2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص111-113.
3 سورة البقرة، الآية رقم:282.
والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام1.
رابعا: ثبت من السنة الشريفة الحكم بما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات.
من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حكم اللوث2 في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا، ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة، واللوث دليل على القتل.
قال بعض فقهاء المالكية: واللوث في الحديث المذكور هو ما ذكر فيه من العداوة بينهم، وأنه قتل في بلدهم، وليس فيها غير اليهود، وقال المازري من فقهائهم أيضًا: إن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه، ولكن جهلوا عين القاتل، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثا، فلذلك جرى حكم القسامة فيه.
ومن السنة أيضا ما ورد في الحديث الصحيح في قضية الأسرى من قريظة، لما حكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فكان بعضهم يدعي عدم البلوغ، فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزرهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره، وهذا من الحكم بالأمارات.
ومنها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده بالقافة، وجعلها دليلا على ثبوت النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في
1 أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، القسم الأول، ص254.
2 سبق بيان معنى اللوث في ص428.
نفسها، وإذنها صمتها" فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم سكوتها قرينة على رضاها، وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت بناء على هذا السكوت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن1.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده، فقال له صلى الله عليه وسلم:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك" قال ابن القيم: فهاتان قرينتان في غاية القوة: كثرة المال، وقصر المدة التي ينفق كله فيها2.
ومنها ما وقع في غزوة بدر لابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا، فقال: أرياني سيفكما، فلما نظر إليهما قال: هذا قتله، وقضى له بسلبه" فاعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأثر الموجود في السيف، ومعنى السلب: الأشياء التي تكون مع القتيل، من السلاح، أو الآلات، أو الثياب، أو النقود، أو الخيل، وغير ذلك.
أدلة القائلين بعدم الحكم بالقرائن:
استدل القائلون بأن القرائن لا تصلح أن تكون وسيلة للإثبات بعدة أدلة، نذكر منها ما يأتي:
أولا: ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة،
1 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص113 وما بعدها.
2 الطرق الحكمية، ص9.
فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها" 1. وجه الدلالة من هذا الحديث أن القرائن لو كانت وسيلة للإثبات لأقام النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة الزنا على هذه المرأة، التي ظهرت قرائن من جانبها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد وقوع الزنا منها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقم عقوبة الزنا عليها مع وجود القرائن، فدل هذا على عدم الحكم بالقرائن.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم عقوبة الزنا على المرأة لضعف القرائن والأمارات التي ظهرت منها، فهي ليست قوية الدلالة كالحمل مثلا حتى يحكم عليها بحد الزنا، وضعف القرائن يدرأ الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات كما هو القاعدة الشرعية الثابتة2.
ثانيا: القرائن ليست مطردة في دلالتها وغير منضبطة؛ لأنها تختلف قوة وضعفا، فلا تصلح لبناء الحكم عليها، على أن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف3.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأن القائلين بأن القرائن وسيلة من وسائل الإثبات اشترطوا أن تكون القرائن قوية لا يشك في قوتها ولا يمترى في دلالتها، ومن
1 نيل الأوطار، ج8، ص305، شركة الطباعة الفنية المتحدة.
2 محاضرات في علم القاضي - القرائن، وغيرها لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص42.
3 مقارنة المذاهب للشيخين محمود شلتوت والسايس، ص140.
السهل على الحكام وغيرهم أن يصلوا إليها، ويقفوا عليها، ومن هذا النوع قرائن تبلغ درجة من القوة بحيث تفوق في دلالتها دلالة الشهادة وغيرها من طرق الإثبات الأخرى، وذلك كما لو ادعي على رجل أنه ارتكب جريمة الزنا، فبان أنه مجبوب، أو ادعي على امرأة أنها ارتكبت جريمة الزنا فتبين أنها بكر.
أما القول بأن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف فالجواب أن ما يعتري القرائن من احتمال الضعف قد يعتري غيرها من وسائل الإثبات، فقد يقر إنسان بالسرقة ثم نتبين بعد ذلك أن إقراره لم يكن اختيارا، وإنما كان تحت تأثير التعذيب ولم يكن سارقا في الواقع، أو يكون الإقرار قد حدث بدون إكراه لكنه كان لسبب آخر دفعه إلى هذا الإقرار الكاذب، وقد يبدو للقاضي أن الشهود صادقون في شهادتهم، ثم يتبين بعد ذلك أنهم شهود زور.
فإذا كانت وسائل الإثبات يتوجه إليه هذا الضعف المحتمل، ولا يكون ذلك قادحا في صلاحيتها للإثبات فكذلك القرائن، ولا معنى لتوجيه هذا للقرائن بخصوصها.
وأيضًا فإن العبرة في هذا حين القضاء، فإذا ظهر وقت القضاء إفادة وسيلة من وسائل الإثبات الغرض المقصود وجب على القاضي أن يقضي بها، وليس مطلوبا من القاضي أن ينظر إلى ما يمكن أن يطرأ في المستقبل، والقرائن وسيلة مثل سائر الوسائل في هذا المعنى1.
ثالثا: أن القرآن والسنة قد ذما اتباع الظن، والقضاء بالقرائن ليس قائما إلا
1 محاضرات في علم القاضي - القرائن، وغيرها للدكتور عبد العال عطوة، ص43.
على الظن، قال الله تبارك وتعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} 1، وقال تبارك وتعالى:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2، وقال عز وجل:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 3، وروى مسلم، وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"4.
ويمكن صياغة الدليل على شكل قياس من الشكل الأول فنقول: القرينة
1 سورة النجم، الآية رقم:23.
2 سورة النجم، الآية رقم:28.
3 سورة النساء، الآية رقم:157.
4 صحيح مسلم بشرح النووي، ج16، ص118، وسنن أبي داود، ج5، ص217، ومعنى الظن المنهي عنه هو ما يخطر بالنفس من التجويز المحتمل للصحة والبطلان فيحكم به ويعتمد عليه.
وقد قسم الزمخشري الظن إلى أربعة أقسام: واجب، وحرام، ومندوب، ومباح، فالواجب حسن الظن بالله تبارك وتعالى، والحرام سوء الظن به عز وجل، ومنه أيضا سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: $"إياكم والظن"، والمندوب حسن الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة، والمباح سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث فلا يحرم سوء الظن به؛ لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خيرا، ومن دخل في مداخل السوء اتهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء، والضابط الذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها هو أن كل ما لا تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وممن عرفت منه الأمانة في الظاهر، فإذا ظننا به الفساد والخيانة فهذا من الظن المحرم، بخلاف من اشتهر بين الناس يتعاطى الريب، وسمي الظن حديثا؛ لأنه حديث النفس.
قال الصنعاني: "وإنما كان الظن أكذب الحديث؛ لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره، وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء فيخفى على السامع كونه كاذبا بحسب الغالب، فكان أكذب الحديث"، سبل السلام للصنعاني، ج4، ص189، 190.
تفيد الظن، والظن مذموم شرعا، فالنتيجة أن القرينة مذمومة شرعا، وما دامت مذمومة لا يصح أن تكون وسيلة إثبات.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن الظن الذي لا يعد دليلا -وهو الظن الذي نهت عنه النصوص الشرعية- هو الظن في العقائد؛ لأن العقيدة لا تثبت بالظن باتفاق العلماء، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام:"إنما ذم الله العمل بالظن من كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم، كمعرفة الإله ومعرفة صفاته"1 أو الظن السيئ الذي يقوم الشخص بتحقيقه، أو هو الشك الذي يعرض للمرء فيحققه ويحكم به مثل أن يظن بإنسان أنه زنى، أو سرق، أو قطع الطريق أو قتل نفسا، أو أخذ مالا، أو ثلب عرضا فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه، وأراد أن يشهد عليه بذلك على ظنه المذكور، فهذا ممنوع في الشرع، أما في غير ذلك فالإجماع على العمل بالظن، فإن تكاليف الشرع فيما عدا العقائد مبنية على الظن2.
1 قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، ج2، ص52.
2 محاضرات في علم القاضي، مصدر سابق، ص42-44، ومن طرق الإثبات للدكتور أحمد البهي، ص83.