الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة
توضيح معنى العدالة عند العلماء
…
الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة
ليس المقصود بالعدالة هنا أن يكون الشخص عادلا في أحكامه، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ الذي ليس له دراية بأساليب الفقهاء، بل لهذه الكلمة معنى آخر يريده العلماء، فعندما يشترط العلماء العدالة في الشخص، فإنهم يقصدون بها استعدادا ذاتيا يمنعه من ارتكاب الجرائم والمخالفات التي نهى الشرع عنها، بل ويقصدون أيضًا أن استعداده الذاتي يمنعه من فعل الأمور التي لم ينه الشرع عنها لكنها لا تليق بأمثاله بحسب عرف الناس في زمانه ومكانه.
توضيح معنى العدالة عند العلماء:
اختلفت عبارات العلماء في توضيح حقيقة العدالة، فال بعض العلماء من الحنفية، من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج فهو عدل، أي: إنه لم يتهم بأكل الحرام كالربا والسرقة، والعصب، وأكل مال اليتيم، وما شابه هذا، ولم يتهم بالزنا، وقال بعض العلماء من الحنفية من لم يعرف عليه جريمة في دينه فهو عدل، وقال بعضهم أيضا من يجتنب الكبائر، وأدى الفرائض، وغلبت حسناته سيئاته فهو عدل1، وعرفها ابن الحاجب بأنها محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، ليس معها بدعة، وبين ابن الحاجب أنها تتحقق باجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر، وبعض الصغائر، وبعض المباح2.
ونقل ابن السبكي3 عن بعض العلماء قوله: "لا بد عندي في العدالة من وصف آخر لم يتعرضوا إليه، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه.
فإن المتقي للكبائر والصغائر الملازم لطاعة الله وللمروءة قد يستمر على ذلك ما دام سالما من الهوى، فإذا غلب هواه خرج عن الاعتدال، وانحل عصام التقوى فقال ما يهواه، وإبقاء هذا الوصف هو المقصود من العدل، كما يشير إليه قوله
1 بدائع الصنائع للكاساني. ج6، ص268.
2 بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب، لمحمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني، ج9، ص696. تحقيق دكتور محمد مظهر.
3 الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 771هـ، ج، ص45، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض. دار الكتب العلمية ببيروت.
تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1 وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2 فكم من صالح لا شك في صلاحه من عصمته أن لا يحد وفي نفسه أن لا يعصي، فإذا جرت عليه المقادير وغلب هواه قامت نفسه فانبعث منها ما لا يبقى معه صلاح.
"فلا بد أن يمتحن الصالح حتى يعرف حاله في الرضا والغضب، وعند الأغراض، فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا فليس بعدل وإن كان صالحا قبل حصول ما يغيره.
فالعدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على الصدق في القول في الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر وملازمة المروءة والاعتدال، عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه.
"فقد رأيت من لا يقوم على ذنب فيما يعتقد ثم يستر هواه، على عقله أعاذنا الله من ذلك".
هذا ما يراه بعض العلماء نقله عنهم ابن السبكي وارتضاه مع زيادة رآها لا بد منها وهي -كما قال: "يشترط مع ذلك أن لا يكون متلبسا -حال الشهادة- بمعصية، وإن كانت صغيرة تغتفر إذا لم يكن متلبسا بها حال الشهادة.
قال ابن السبكي: "وهذا لأن المعاصي من حيث هي منافية للعدالة، إلا أننا اغتفرنا الصغائر لقلة الصون عنها، ولا يقبل ذلك عند أداء الشهادة، فلمنصب
1 سورة الأنعام، الآية رقم:152.
2 سورة البقرة، الآية رقم:143.
الشهادة أهبة تنافي المعاصي عنده.
قال ابن السبكي: "وكان هذا للمحافظة على هذا المنصب، فإن من تلبس بالمعصية حال الشهادة كأنه لا مروءة له، وهذا الشرط قاله بعض أصحابنا بدليل".
انتهى كلام ابن السبكي أحد كبار علماء الشافعية، وواضح من كلام ابن السبكي وشيخه أنهما يشددان في تحقيق العدالة ليتحقق الاحتياط الكامل في حقوق الناس، لكن هذا التشديد قد لا يكون متيسرا في الواقع؛ لأن ابن السبكي وشيخه يريان أنه لا بد من امتحان الصالح حتى يعرف حاله في الرضا والغضب وعند الأغراض، فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا فليس بعدل وإن كان صالحا قبل حصول ما يغيره.
وكأن معنى هذا أننا كلما احتجنا إلى العدالة في ولاية كالشهادة أو القضاء، أو رياسة الدولة أو غير ذلك يمتحن من نحتاج إلى شهادته، أو قضائه، أو رياسته، ولا نحكم على الناس أنهم عدول إلا إذا عرضناهم لمواقف نختبرهم فيها لنعرف حالهم في الرضا والغضب وعند الأغراض، وأظن أن هذا أمر مبالغ فيه.
ثم نسأل: من سيمتحن من؟ هل كل الناس سيتحولون إلى ممتحنين -بصيغة اسم الفاعل- وممتحنين -بصيغة اسم المفعول- أم أن الحكام سيمتحنون المحكومين أم ماذا؟ هذا رأي فيه شدة.
وإذا انتقلنا إلى فقيه آخر من فقهاء الشافعية هو الإمام السيوطي نجده ينهج نفس المنهج في التشديد في تحقيق العدالة، فقد ذكر السيوطي تعريفا للعدالة عند بعض العلماء هو:"اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر" أي: واجتناب الإصرار
على الصغائر، وهذا التعريف ضعيف في نظر السيوطي لعدة أمور:
أولا: لأن مجرد اجتناب الشخص للكبائر من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة.
وهذا غير مقبول من السيوطي؛ لأن المطلوب في المتصف بالعدالة أن لا يرتكب كبيرة، وقد وجد منه ذلك فليس لنا بعد هذا أن نبحث هل امتناعه من ارتكاب الكبيرة ناتج عن ملكة عنده، أو ليست عنده هذه الملكة؛ لأن هذا أمر نفسي.
ثانيا: مما يضعف هذا التعريف أيضا في نظر السيوطي أن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك.
ويمكن أن نجيب على هذا بأن المتبادر إلى الفهم إذا قيل إن إنسانا يجتنب الكبائر هو أنه لا يفعل أي كبيرة، ولا يفهم من هذا القول أنه يحتمل أنه يفعل كبيرة واحدة. ويلاحظ أن "أل" للجنس ويصدق ذلك بالمفرد.
ثالثا: أن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر، فذكره في الحد تكرار، أي: ذكره في تعريفها تكرار، ويمكن أن نجيب بأن الإصرار على الصغائر وإن كان من جملة الكبائر حكما لا حقيقة لكن ذكره في التعريف يعد من زيادة الإيضاح.
رابعًا: لأن صغائر الخسة كسرقة لقمة من الخبز وسرقة ليمونة أو برتقالة، وما شابه ذلك، ورذائل المباحات خارج عنه مع اعتباره.
وهذا مسلم من السيوطي، وكان يمكن أن يتحاشى هذا الاعتراض بزيادة
تفيد هذا المعنى، فيقال مثلا: اجتناب الكبائر، والإصرار على الصغائر، والمباح الذي يخل بالمروءة، وإذا كان المباح الذي يخل بالمروءة طاعنا في العدالة فتكون الصغيرة الدالة على الخسة من باب أولى.
والتعريف الذي يعده السيوطي أحسن تعريف للعدالة هو: "ملكة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة، أو صغيرة دالة على الخسة، أو مباح يخل بالمروءة"1.
وفي بعض كتب الشيعة الإمامية أن بعض أئمتهم يرى أن العدل يعرف بالستر والعفاف، وكف البطن والفرج واليد واللسان2، ويمكن الاعتراض على من عرف العدل بأنه من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج، وعلى من عرفه كذلك بأنه من يعرف بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، يمكن الاعتراض بأن عدم ارتكاب جريمة كبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر شرط في تحقيق العدالة، والكبائر ليست مختصة بالبطن والفرج واليد واللسان، فهناك جرائم كبيرة تصدر من عضو غير البطن والفرج واليد واللسان، كعقوق الوالدين والفرار من الزحف، فيكون التعريف غير جامع مع أنه يشترط في التعريف أن يكون جامعا مانعا.
وإن كان يمكن الدفاع عن مثل هذا التعريف بأن تخصيص البطن والفرج بالذكر أو هما مع اليد واللسان، إنما بقصد به أن أكثر الجرائم الكبيرة تصدر عن هذه الأربعة3.
ويحسن أن ننبه إلى أن العلماء يصرحون بأن الإصرار على الصغيرة هو في حكم الكبيرة من حيث قدحه في العدالة وري عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله عنهم أنهم قالوا: "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع
1 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص384.
2 الاجتهاد والتقليد، تأليف رضا الصدر، ص347.
3 الاجتهاد والتقليد، تأليف رضا الصدر، ص347.
إصرار" قال النووي رحمه الله تعالى: "ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار"1 ا. هـ، ولذلك فإن كلمة "كبيرة" في هذا التعريف تشمل الكبيرة حقيقة، كالقتل والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وتشمل الإصرار على الصغيرة، ولهذا -في ظني- استغنى في هذا التعريف عن ذكر الإصرار على الصغيرة، وإن كان ذكر ذلك في التعريف -في رأيي- سيؤدي إلى زيادة إيضاح معنى العدالة.
ومعنى "ملكة في النفس" أي: هيئة راسخة في النفس، أي: فطرة، أو ما يمكن أن نعبر عنه بعبارة أخرى استعداد ذاتي في الشخص، كما نقول: فلان عنده ملكة الرسم أي: عنده استعداد ذاتي يجعله يستطيع أن يرسم، وكما نقول: عنده ملكة الشعر أو ملكة الخطابة وهكذا.
معنى الكبيرة:
اضطربت أقوال العلماء في تعريف الكبيرة، حتى قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام:"لم أقف لأحد من العلماء على ضابط لذلك"2، يعني أنه لم يجد لها تعريفا عند العلماء سالما من الاعتراض، وقال النووي عن الصغائر والكبائر:"اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا"3.
عرفها الرملي أحد فقهاء الشافعية بأنها "ما فيه وعيد شديد بنص كتاب أو
1 شرح صحيح مسلم للنووي، ج2، ص87.
2 قواعد الأحكام في مصالح الأنام لأبي محمد عز الدين بن عبد العزيز عبد السلام، ص22 - دار الكتب العلمية.
3 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج، للنووي، ج8، ص294، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
سنة" ثم قال: "ولا يقدح في ذلك عدهم كبائر ليس فيها ذلك، كالظهار1، وأكل لحم الخنزير"2.
لكن هذا من الرملي لا يسلم؛ لأنه لا بد في التعريف أن يكون جامعا مانعا، وهذا التعريف للكبيرة غير جامع لأفرادها؛ لأن الظهار وأكل الخنزير من الكبائر مع أنه لم يرد فيهما وعيد شديد لا في الكتاب ولا في السنة.
وعرفها البعض بأنها: "كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة". أي: تشعر بأن مرتكبها قليل الاكتراث بالدين، وتشعر بأنه غير قوي التدين. واعترض على هذا التعريف بأنه يشمل الصغائر التي تدل على الخسة، كسرقة برتقالة، أو لقمة من الخبز، وما شابه ذلك، مع أن ذلك ليس بكبيرة، وعلى هذا فالتعريف غير مانع، والشرط في التعريف أن يكون جامعا مانعا.
وقيل ما يوجب الحد3.
ويعترض على هذا بأن هناك جرائم من الكبائر ولا يجب فيها حد، كأكل أموال اليتامى، وشهادة الزور، وما ماثل هذا، فالتعريف غير جامع، ومن شروط التعريف الصحيح أن يكون جامعا4.
1 معنى الظهار تشبيه الرجل زوجته بإحدى محارمه في عدم الاستمتاع بها، بأن يقول لزوجته أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أختي وما شابه ذلك وهو حرام.
2 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج للنووي، ج8، ص294، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
3 الحدود هي العقوبات المقدرة التي وجبت حقا لله تعالى كعقوبة الزنا والخمر.
4 نهاية المحتاج، ج8، ص294.
وقيل في تعريفها: "ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة"1.
وقيل أيضا: "كل ما كان شنيعا بين المسلمين، وفيه هتك حرمة الدين"2.
وقال أبو حامد العزالي3: "والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليها اعتيادا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة".
ويرى الإمام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام4 في كتاب القواعد أن الضابط في معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة هو أن يعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر، التي نص الشرع عليها في الكتاب أو السنة، فإذا كانت ناقصة عن أقل مفاسد الكبائر فيكون هذا الذنب صغيرة، وأما إن كانت مفسدته مساوية لأدنى مفاسد الكبائر أو تزيد عليه فيكون هذا الذنب من الكبائر، وذكر أمثلة لهذا، كشتم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الاستهانة بالرسل أو تكذيب واحد منهم، قال: "فهي من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذلك لو
1 الروض المربع، لمنصور بن يونس البهوتي بحاشية العنقري، ج3، ص422، مطبعة السعادة.
2 رد المحتار، حاشية ابن عابدين، على الدر المختار، ج5، ص473، الطبعة الثانية.
3 نقلا عن النووي في شرح صحيح مسلم، ج2، ص85.
4 نقلا عن المصدر السابق.
دل الكفار على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، فإن نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة، قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى. قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قرن به وعيد، أو حد، أو لعن، فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد، أو الحد، أو اللعن، أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة، ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم.
هذه بعض تعريفات علمائنا -رضي الله تعالى عنهم.
والكبائر كثيرة، كالقتل والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، والتعامل بالربا، وشتم الرجل والديه، والنميمة، وعدم الاستبراء من البول، واليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام، وغير ذلك، قال بعض العلماء إن حصر الكبائر لا يمكن استيفاؤه1.
وأما الصغيرة فهي كل ما لا ينطبق عليها تعريف الكبيرة من الأمور المحرمة،
1 الأشباه والنظائر للسيوطي، ص389، وشرح صحيح مسلم للنووي، ج2، ص84.
وذلك مثل سب الناس بألفاظ لا تعد من قبيل القذ "والقذف هو الرمي بالزنا" ومثل استماع كلام النساء الأجانب على وجه التلذذ به، والمعاكسات التليفونية للنساء، والنظر المحرم إليهن، والكذبة التي لا ضرر فيها ولا حد عليها1، واللعب بالنرد2، وتعاطي العقود الفاسدة3.
معنى المروءة:
يقصد العلماء من صفة المروءة أن يكون الإنسان نائيا بنفسه عن كل ما يمس كرامته، وكرامة الفئة التي ينتمي إليها، ويخدش مكانته في المجتمع، فليزمه أن يكون متمسكا بالمستوى الخلقي اللائق به وبأمثاله، غير مرتكب لفعل يحط من قدره، حتى لو كان هذا الفعل غير محرم في الشرع، ولا مكروها، لكنه غير لائق به في عرف المجتمع، فأستاذ الجامعة مثلا يلزمه أن يتحلى بالصفات التي تليق بأساتذة الجامعة فإذا كان عمل عملا لا يليق بأساتذة الجامعة فإنه لا يكون متصفا بالمروءة، وطالب العلم كذلك يلزمه أن يكون على الصفات التي تليق بطلبة العلم، فإذا فعل شيئًا لا يليق بطلبة العلم فإنه يكون غير متصف بالمروءة وهكذا.
وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي للمروءة نجد أنها -كما جاء في المصباح:
1 حاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج، ج4، ص319، والروض المربع بحاشية العنقري، ج3، ص422، ونظام القضاء في الإسلام، ص15.
2 والنرد يسمى الآن في عرف العامة بالطاولة.
3 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص295، وحاشية الشبراملسي عليه، ج8، ص295، وقد تردد كثير من العلماء المتأخرين -كما قال ابن السبكي- في حكم الإقدام على العقود الفاسدة، أهو حرام، أم حلال؟ وقد استدل ابن الرفعة على أن الإقدام على العقد الفاسد حرام، يقول الله تبارك وتعالى، في مجال تحريم بعض النساء في الزواج:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ووجه الدلالة أن حقيقة الجمع بين الأختين بالوطء غير ممكنة، إنما الممكن في الجمع بينهما بالعقد. الأشباه والنظائر، لابن السبكي، ج1، ص245، دار الكتب العلمية ببيروت.
آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات"1.
وقد عرفت المروءة بعدة تعريفات، منها ما قاله الشيخ زكريا الأنصاري أحد فقهاء الشافعية، في تعريفها بأنها:"التخلف بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، وعدم اتهام".
وقريب من هذا تعريف بعض فقهاء الشافعية أيضًا وهو أن يسير كسير أشكاله في زمانه ومكانه..
وعرفها الشيخ الشرقاوي من الشافعية أيضًا بأنها: "توقي الأدناس عرفا". وعلل لكون ذلك مرجعه إلى العرف بأن المروءة لا تنضبط، بل تختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال والأماكن، بخلاف العدالة، فإنها ملكة راسخة في النفس لا تتغير بعروض أمر من الأمور المنافية لها، فلا تحتاج في ضبطها إلى العرف2.
وقيل أيضًا في تعريفها "أن يصون نفسه من الأدناس وما يشينها بين الناس".
وأما ابن قدامة الفقيه الحنبلي المعروف فقد عرف المروءة بأنها "اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به"3.
وعرفها الدردير الفقيه المالكي المعروف بأنها "كمال النفس بصونها عما يوجب ذمها عرفا، ولو مباحا في ظاهر الحال".
1 المصباح المنير، للفيومي، الميم مع الراء والهمزة.
2 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج1، ص505، 506.
3 المغني، لابن قدامة، ج9، ص168. وكفاية الأخيار، ج2، ص279.
وقد ذكر علماؤنا -رضي الله تعالى عنهم- أمورا تخل بالمروءة، كالأكل في الأسواق إذا كان من شخص لا يعمل في السوق، وأما أهل السوق الجالسون فيه فلا يخل بمروءتهم الأكل فيه للضرورة، والمراد بالأكل في السوق -كما بين ابن قدامة- أن ينصب مائدة في السوق، ثم يأكل، والناس ينظرون، وليس المراد أكل شيء يسير، أو كان يأكل في دكان وهو مستتر، أو غلبه جوع أو عطش، أو كان صائما فبادر بالإفطار عملا بالسنة؛ لأن من المستحب تعجيل الإفطار، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" رواه البخاري ومسلم1.
ومن الأمور التي ذكرها العلماء أيضًا المشي مكشوف الرأس في السوق، أو كشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه، أو ذكر أهله أو زوجته بالأمور السخيفة، ومنها الإكثار من الحكايات المضحكة بين الناس، بشرط أن تكون حكايات كاذبة، أما لو كانت صادقة فلا يخدش ذلك مروءته، وذكروا من ذلك أيضًا الحرفة الدنيئة، إذا كانت لا تليق به؛ لأنها تشعر بالخسة، بخلافها ممن تليق به2.
ولا بد أن يلاحظ أن الصفات التي تسقط المروءة يتدخل في اعتبارها عرف الناس وتقاليدهم في كل عصر، وهو ما يفيده قولهم في تعريف المروءة بأنها:"التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه" أو "توقي الأدناس عرفا"، أو "أن يصون نفسه من الأدناس وما يشينها بين الناس" ولذلك وجدنا علماءنا القدامى يذكرون أن الأكل في الأسواق، والمشي مكشوف الرأس مما يخرم المروءة في عصرهم، لكن
1 سبل السلام، ج2، ص154.
2 حاشية الشرقاوي، ج2، ص506، 507، والمغني ج9، ص168، 169.
عصرنا الذي نعيش فيه الآن يسمح بذلك، ولا يعد هذا قادحا في مروءة الشخص.
مما سبق يتبين أن أساس المروءة أو معيارها راجع إلى القواعد التي استقرت في سلوك الأفراد في المجتمع الإسلامي، مراعى فيها تقاليد هذا المجتمع وقيمه السلوكية، أو بعبارة محددة عرفه وعاداته التي لا تخالف أحكام الشرع، وهذه أمور تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، وقد يكون العرف والعادات مانعا في مجتمع إسلامي وغير مانع في مجتمع إسلامي آخر، فيكون فعل شيء من الأشياء التي تخالف العرف والعادات في أحد المجتمعات مخلا بالمروءة مع أن هذا الفعل نفسه غير مخل بالمروءة في مجتمع إسلامي آخر.
ومما سبق أيضا يتبين أن عدم المروءة يخل بصفة العدالة، وهي شرط مطلوب في القاضي عند كثير من العلماء.
لماذا اشترطت المروءة في العدالة:
وقد اشترطت المروءة في العدالة عند من يقول باشتراطها؛ لأنه -كما قال العلماء- من تخلق بما لا يليق وإن لم يكن حراما، جره ذلك إلى عدم المحافظة على دينه واتباع الشهوات1. وكأنهم يريدون أن يقولوا إن الإنسان إذا تجرأ على مخالف ما استقر عليه عرف المجتمع من اتباع قواعد في السلوك على أساسها يحترم الإنسان، ويصبح له قيمة اجتماعية، واستهان بذلك، فإن هذا قد يكون طريقا إلى تجرئة على اتباع شهواته ومخالفة أوامر الشرع، فالتجرؤ على الأمور اليسيرة المستقيمة قد يفضي إلى التجرؤ على ما هو أكبر، ومن الملاحظ أن مراعاة نظرة الناس قد تكون أحد الأسباب التي تؤدي إلى أن يبتعد الإنسان عن المحرمات حتى
1 المغني، ج9، ص168.
لا ينظر إليه الناس نظرة الازدراء والتحقير.
وأيضًا؛ فلأن الأصل -كما قال العلماء1- أن حفظ المروءة من الحياء ووفور العقل، وطرح ذلك إما لخبل بالعقل، أو قلة حياء أو قلة مبالاة بنفسه، وحينئذ فلا يوثق بقوله في حق غيره، وهو أولى؛ لأن من لا يحافظ على ما يشينه في نفسه فغيره أولى، فإن من لا حياء فيه يصنع ما يشاء.
لا يخرج الشخص عن العدالة بفعل صغيرة:
والعدالة نقيضها الفسق، والعدل نقيضه الفاسق، وقال العلماء إنه لا يخرج الشخص عن العدالة بفعل صغيرة، لقول الله عز وجل:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قيل: اللمم هو صغار الذنوب؛ ولأن التحرز من الصغائر غير ممكن، لكن بعض العلماء قالوا أيضًا إن الإصرار على الصغيرة يخل بالعدالة، كما سبق أن بينا.
المراد بالإصرار على الصغيرة:
المراد بالإصرار على الصغيرة -عند بعض العلماء: التكرار، فلو فعلها مرة واحدة لا يكون مصرا، قال العز بن عبد السلام:"إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ردت شهادته، وروايته بذلك"، وقال البعض الآخر: المراد عدم التوبة، حتى لو فعلها مرة من غير توبة كان مصرا، وقيل أيضًا: هو العزم على المعاودة بعد الفعل وقبل التوبة، وقيل الإصرار على الصغيرة يكون بأن لا تغلب طاعاته معاصيه2.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا كان الأغلب الطاعة والمروءة قبلت
1 كفاية الأخيار، لتقي الدين الحصني، ج2، ص279.
2 المغني، ج9، ص168.
الشهادة، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته1.
هذا، وقد صرح بعض العلماء بأن الإصرار على الصغيرة لا يصيرها كبيرة حقيقة، وإنما يلحق بها في الحكم2. ونحن نرى ما يراه الشوكاني وهو أن الإصرار على الصغيرة لا يحولها إلى كبيرة، وإنما الإصرار على الصغيرة صغيرة، كما أن الإصرار على الكبيرة كبيرة3.
وقد قال كثير من العلماء: من غلبت طاعاته معاصيه كان عدلا، وعكسه إذا كانت معاصيه تغلب طاعاته فهو فاسق، والمرا بالمعاصي التي غلبتها الطاعات هنا هي الصغائر.
الضابط في الغلبة:
يرى بعض العلماء أن الضابط في الغلبة هو العد من جانبي الطاعة والمعصية، من غير نظر لكثرة ثواب في الطاعة وعقاب في المعصية؛ لأن ذلك أمر أخروي، وهذا الضابط قريب من ضبطه بالعرف.
وقال العلماء إن كل صغيرة تاب منها فاعلها لا تدخل في العد؛ لأن التوبة الصحيحة تذهب أثرها رأسا4.
بعض العلماء يرى أنه ليس في الذنوب صغيرة:
نقل عن جمع من العلماء كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما والأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول
1 نقلا عن كفاية الأخيار، للحصني، ج2، ص276.
2 نهاية المحتاج للرملي، ج8 ص294، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج1، ص22، وحاشية الشرقاوي، ج2، ص505.
3 قال الشوكاني: وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة، إرشاد الفحول، للشوكاني ص53.
4 نهاية المحتاج، ج8، ص294.
والفقه، أنه ليس في الذنوب صغيرة، لكن ذلك منهم -كما قال العلماء- لأنهم كرهوا أن يسموا معصية الله تعالى صغيرة، إجلالا لذاته سبحانه وتعالى، فكل مخالفة هي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة، مع اتفاقهم جميعا على أن بعض الذنوب يقدح في العدالة، وبعضها لا يقدح فيها، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق1، وأما جمهور العلماء من السلف والخلف، من جميع الطوائف، فيرون أن الذنوب تنقسم إلى صغيرة وكبيرة2.
وهو مروي أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه البسيط في المذهب3:"إنكا الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع" وقال الإمام النووي المحدث والفقيه الشافعي المشهور: "ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك، كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة، فمسى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر، ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، لكونها أقل قبحا، ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم"4.
وأقول ويشير إلى هذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} فهذا النص الكريم يشير إلى أن هناك ذنوبا غير الكبائر، وقول الله تبارك وتعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
1 نهاية المحتاج، ج8، ص294.
2 نيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص222. دار الجيل، بيروت.
3 نقلا عن النووي، في شرح صحيح مسلم، ج2، ص85.
4 المصدر السابق، ج2، ص85.