الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يقبل جرح الشهود من الخصم، رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد
…
لا يقبل جرح الشهود من الخصم:
اتفق الفقهاء على أنه لا يقبل الجرح للشهود من الخصم، فلو قال المشهود عليه: هذان فاسقان، أو عدوان لي، أو آباء للمشهود له، لم يقبل قوله مجردا من البينة؛ لأنه متهم في قوله، ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعا، فأشبه الشهادة لنفسه.
ولو كان قول الخصم يقبل من غير بينة لأدى هذا إلى أنه لا يريد أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها، فتضيع الحقوق وتذهب حكمة شرع البينة.
هذا، وقد بيّن بعض العلماء أن البلد يتعذر فيه العدول، تقبل شهادة بعضهم على بعض؛ لأن الحال حينئذ حال ضرورة، ونفس هذا الحكم إذا تعذرت العدالة في القضاة وسائر الولاة1.
رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد:
يرى الحنفية وجوب العدالة في الشاهد، متفقين في هذا مع المذاهب الثلاثة الأخرى، كما سبق أن بينا، لكنهم يرون أنه إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق ينفذ حكمه، فالعدالة -إذن- ليست عندهم شرطا في صحة الأداء، فلو قضى القاضي بشهادة الفاسق صح عند الحنفية وكان القاضي آثما.
رأي أبي حنيفة:
ويرى أبو حنيفة جواز الاقتصار على ظاهر عدالة الشاهد المسلم إلا في
1 مواهب الجليل، ج6، ص171.
الحدود والقصاص، ولا يسأل القاضي عنه إلا إذا طعن فيه الخصم، لقول عمر -رضي الله تعالى عنه:"المسلمون عدول" ولأن العدالة هي الأصل؛ لأن الإنسان يولد غير فاسق، فالعدالة أمر يقيني بحسب الأصل، والفسق أمر طارئ مظنون، فلا يجوز ترك الأصل اليقيني بأمر مظنون.
إجابة المخالفين:
وأجاب المخالفون لرأي أبي حنيفة عن الاستدلال بقول عمر "المسلمون عدول" بأن هذا معارض بما روي عنه أنه أتى بشاهدين فقال لهما: "لست أعرفكما ولا يضركما أني لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما".
وأما القول بأن العدالة هي الأصل في المسلمين، فقد أجيب عنه بأن الغالب الخروج عنها، وقال البعض: إن العدالة ليست هي الأصل من الإنسان، وإنما الأصل الجهل والظلم، بدليل قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 1 فالفسق والعدالة كل منهما يطرأ على الآخر.
لماذا استثنيت الحدود والقصاص:
وأما استثناء الحدود والقصاص من الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد عند أبي حنيفة؛ فلأنه كما أن الأصل في الشاهد العدالة فالأصل في المشهود عليه العدالة، والشاهد وصف المشهود عليه بالقتل أو الزنا مثلا، فتقابل الأصلان، فيكون الترجيح بالعدالة الباطنة؛ وأيضًا فلأن الحدود مبناها على الإسقاط، فيسال القاضي عن الشهود احتيالا لدرء الحدود.
1 سورة الأحزاب، الآية رقم:72.
ما عليه الفتوى في الفقه الحنفي:
وأما الرأي الذي عليه الفتوى في الفقه الحنفي فهو ما يراه أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، وهو أن القاضي لا بد أن يسأل عن الشهود في السر والعلانية في كل الحقوق، سواء أكانت في مجال القصاص والحدود أم في غيرهما، وسواء طعن الخصم في الشهود أم لا؛ لأن الحكم إنما يجب بشهادة العدل فوجب البحث عن العدالة.
ويقول أبو بكر الرازي أحد كبار فقهاء الحنفية: "لا خلاف بينهم في الحقيقة، فإن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة فيه ظاهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام عدل أهله، وقال: "خير القرون قرني 1، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب"، واكتفى بتعديل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمانهما "يقصد زمان أبي يوسف ومحمد الذي استمر فترة بعد وفاة أستاذهما" فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال، ولو كان في زمنه ما سألا "أي: لو كانت حياتهما في مدة حياة أستاذهما فقط ما سألا"، ولو كان في زمنهما لسأل، فلهذا قلنا: الفتوى على قولهما"2.
ونحب أن نبين أن سؤال القاضي عن الشهود في كل الحقوق عند أبي يوسف ومحمد واجب، وليس شرطا لصحة الحكم عندهما، أي: فيأثم القاضي
1 القرن: الجيل من الناس، قيل ثمانون سنة، وقيل سبعون، وقال الزجاج: الذي عندي والله أعلم أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم، سواء قلت السنون أو كثرت، قال: والدليل عليه قوله عليه السلام: "خير القرون قرني"، يعني أصحابه، "ثم الذين يلونهم" يعني التابعين، "ثم الذين يلونهم" أي: الذين يأخذون عن التابعين. المصباح المنير.
2 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص196، واللباب في شرح الكتاب، ج4، ص57.
بتركه ولا يبطل الحكم، فالسؤال واجب ديني فيأثم القاضي بتركه فقط، وأما القضاء فنافذ1.
وبعد، فإننا نرجح الرأي القائل بعدم الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، ويؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والرضا معنى يكون في النفس بما يظهر لها من الأمارات عليه، ويقوم من الدلائل المبينة له كما قال ابن العربي2.
وهنا يمكن أن يثار سؤال هو إذا فقدت العدالة، وعم الفسق في المجتمع فما الحكم؟
نجد العلماء يختلفون في حكم هذه الحالة، فبعضهم يرى أن القاضي يحكم في هذه الحالة بشهادة الأمثل فالأمثل، أي: يؤخذ بشهادة الأقل فسقا كلما أمكن، للضرورة، وهذا يراه جمع من فقهاء الشافعية منهم الأذرعي، والغزي وبعض فقهاء المالكية، والبعض يرى أنه لا يؤخذ بشهادة الفاسق مطلقا مهما كانت أحوال الناس، وهذا يراه العز بن عبد السلام، والرملي من فقهاء الشافعية؛ لأنه إذا كان في الأخذ بشهادة الأمثل فالأمثل من الفساق مصلحة فإن هذه المصلحة يعارضها المفسدة التي ستلحق المشهود عليه3.
1 تكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص79، والمجاني الزهرية، ص109.
2 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص254.
3 نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8، ص292.