الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن:
يجب أن نذكر في ختام الكلام عن القرينة وآراء العلماء فيها من حيث كونها وسيلة إثبات أم لا، أن الفقهاء من المذاهب الفقهية الأربعة عملوا بالقرائن في مسائل كثيرة، وإليك بعضا من هذه المسائل:
المسألة الأولى: يرى الفقهاء جميعا جواز اتصال الرجل جنسيا بالمرأة التي أهديت إليه ليلة الزفاف، إذا كان لا يعرفها وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقد عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه زوجته، وذلك اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة، وممن بيّن ذلك الشافعية في كتبهم، فنجد الرملي أحد فقهاء الشافعية يبين في مجال الكلام عن شروط الشاهد أنه يشترط فيه الإبصار فلا تقبل شهادة الأعمى لا على فعل كالزنا، والغصب والرضاع والولادة والإتلاف، ولا على قول كالعقود والفسوخ لانسداد طريق المعرفة مع اشتباه الأصوات وإمكان التصنع فيها، ثم يبين جواز وطء الأعمى لزوجته اعتمادًا على قرينة. فيقول:"وإنما جاز له وطء زوجته اعتمادا على صوتها لكونه أخف، ولذا نص الشافعي على حل وطئها اعتمادا على لمس علامة يعرفها فيها، وإن لم يسمع صوتها، وعلى أن من زفت له زوجته أن يعتمد قول امرأة: هذ زوجتك، ويطؤها. بل ظاهر كلامهم جواز اعتماده على قرينة قوية أنها زوجته وإن لم يخبره أحد بذلك"1.
الثانية: جواز الاعتماد على قول الصبيان المرسل معهم بالهدايا، وأنها مرسلة إليهم، فتقبل أقوالهم ويجوز أكل الطعام المرسل به.
1 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج، للنووي، ج8، ص299.
الثالثة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه الإنسان، كالفلس، والثمرة ونحو ذلك.
الرابعة: جواز أخذ ما يبقى في البساتين والمزارع من الثمار والحب بعد انتقال أهله عنه، وتخليته، وتسييبه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الحب عند الحصاد مما لا يعتني صاحب الزرع بلقطه.
السادسة: يجوز للضيف أن يقدم على الأكل إذا قدم له صاحب المنزل الطعام، وإن لم يأذن له باللفظ، إذا علم أن صاحب الطعام قدمه له خاصة، وليس هناك غائب ينتظر حضوره، اعتبارا بدلالة الحال الجارية مجرى القطع.
السابعة: القضاء بالنكول "الامتناع عن اليمين"، واعتباره في الأحكام، وليس إلا رجوعا إلى مجرد القرينة الظاهرة، فقدمت على أصل براءة الذمة1.
الثامنة: إذا تنازع الزوجان في متاع البيت، ولا توجد بينة فجمهور الفقهاء يرون أن للرجل ما يعرف للرجال وللمرأة ما يعرف للنساء2.
التاسعة: جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمدا عدوانا، والعمدية صفة تقوم بالقلب، فجاز للشاهد أن يشهد بها اكتفاء بالقرينة
1 معين الحكام لعلي بن خليل الطرابلسي، ص166، والطرق الحكمية، لابن القيم، ص25.
2 الطرق الحكمية، ص25.
الظاهرة1.
العاشرة: إقرار المريض لوارث أو صديق ملاطف لا يقبل عند المالكية لقيام قرينة التهمة في قصده نفع الوارث، أو إيصال ذلك لبعض الورثة على يد صديقه.
الحادية عشرة: إذا ادعت الزوجة أن زوجها لم يكن ينفق عليها فيما مضى من الزمان وهما في بيت واحد، فلا يقبل قولها عند مالك، وأحمد؛ لأن وجودهما في بيت واحد قرينة دالة على كذبها.
الثانية عشرة: انعقاد التبايع بالمعاطاة من غير لفظ، اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا، قال بهذا المالكية والحنابلة وقال به أيضًا الحنفية، وإن خالف القدوري من علمائهم فذكر أن التعاطي يجوز في الأشياء الخسيسة كالرغيف، والبيضة، ولا يجوز في الأشياء النفيسة، قال صاحب البدائع معقبا على ما ذكره القدوري: ورواية الجواز في الأصل مطلق عن هذا التفصيل وهي الصحيحة2. وخالفهم الشافعي رضي الله عنه في ذلك، لكن جماعة من الشافعية منهم النووي، والبغوي، والمتولي اختاروا صحة البيع بالمعاطاة في كل ما يعده الناس بيعا، ويرى ابن سريج والروياني من فقهاء الشافعية جواز البيع بالمعاطاة في الأشياء غير النفيسة، وهي التي جرت عادة الناس فيها بالمعاطاة، كشراء رغيف، أو حزمة بقل ونحوهما3.
1 تبصرة الحكام، ج2، ص116.
2 البدائع، ج5، ص134.
3 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص3، والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ص4.
الثالثة عشرة: يرى الحنابلة وبعض المالكية أنه يجوز للرجل أن يلاعن امرأته، فيشهد عليها بالزنا توكيدا لشهادته باليمين، إذا رأى رجل يعرف بالفجور يدخل إليها، ويخرج من عندها نظرا إلى الأمارات والقرائن الظاهرة1.
ثم أما بعد، فإنه إذا كانت القرينة تصلح أن تكون وسيلة إثبات لحكم معين في بعض الأمور، فإن الفراسة لا تصلح أن تكون أساسًا للحكم، وجمهور العلماء على منع القضاء بالفراسة؛ لأن القضاء لا بد أن يعتمد على الأدلة الظاهرة الواضحة، والحكم بالفراسة ما هو إلا اعتماد على فكرة وجدت في نفس الإنسان، وقد تكون هذه الفكرة صحيحة، وقد تكون خطأ؛ لأنها لم تبن إلا على الظن والتخمين، والظن كما أنه قد يصيب في بعض الأحيان فإنه كثيرا ما يخطئ، فيؤدي ذلك إلى القضاء بالظلم2.
قال ابن العربي: "الفراسة لا يترتب عليها حكم"، وقال:"إن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا، وليس الفراسة منها".
وقال ابن فرحون: الحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحزر، والتخمين، وذلك فسق وجور من الحاكم، والظن يخطئ ويصيب3.
1 تبصرة الحكام، ج2، ص118، والطرق الحكمية، ص25.
2 أحكام القرآن لابن العربي، ج3، ص1119، وتبصرة الحكام، ج2، ص120، ومعين الحكام، ص124، والقرائن ودورها في الإثبات للدكتور أنور دبور، ص14، 15.
3 تبصرة الحكام، ج1، ص202، 203، ج2، ص130، 131.