الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متى تجب القسامة
؟
بين العلماء أن القسامة لا تجب بمجرد الدعوى من أولياء الدم، بل لا بد من أن تقترن بها شبهة يغلب الظن الحكم بها، وقد اختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة، ولها سبع صور:
الأولى: أن يقول المقتول في حياته بعد إصابته: دمي عند فلان، وهو قتلني أو ضربني. فهذا يوجب القسامة عند مالك، والليث بن سعد، ولا يوجبها عند غيرهما من سائر العلماء، فلم ير أحد غير مالك والليث في هذا قسامة.
قال أصحاب مالك محتجين لهذا الرأي إنه لو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى هذا إلى إبطال الدماء غالبا، وقالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود بالبر والتقوى، فوجب قبول قوله.
الثانية: اللوث1 من غير بينة على معاينة القتل.
وبهذا قال مالك، والليث بن سعد، والشافعي، ومن اللوث أن لا يوجد إلا شاهد واحد عدل، وكذلك شهادة جماعة لا تتحقق فيهم صفة العدالة.
الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح، فعاش المجروح بعده أياما، ثم مات قبل أن يفيق منه، قال مالك، والليث: هو لوث، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة العدلين.
1 اللوث بفتح اللام وسكون الواو، وقد فسره الحنفية بأنه العداوة، وفسره الشافعية بأنه قرينة حال توقع في القلب صدق المدعي بأن يغلب على الظن صدقه، بأ يكون هناك علامة القتل على واحد معين، كوجود بعض الدم على جسمه، أو ملابسه، أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة، أو وجد قتيل تفرق عنه جمع، كأن ازدحموا على بئر، أو على باب الكعبة، أو ازدحموا لرؤية لاعب يؤدي ألعابا سحرية في ميدان عام، أو تظاهرات في الشوارع بالأعداد الكبيرة، ثم تفرقوا عن قتيل، ولا يشترط هنا كونهم أعداء، أو شهادة رجل واحد عدل، فهذا أيضا لوث، أو شهادة جماعة غير عدول أن أهل هذا الموضع قتلوه.
ومعنى اللوث عند مالك كمعناه عند الشافعية.
ويرى أحمد بن حنبل في رواية عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله. وفي رواية ثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي. مجمع الأنهر، ج2، ص678، والمغني، ج8، ص68.
الرابعة: وجود المتهم عند المقتول أو قريبا منه، أو يكون آتيا من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثره من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن أن يكون السب في قتله، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي.
الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه.
وتوجد رواية أخرى عن مالك بأنه لا قسامة، بل الواجب فيه الدية على الطائفة الأخرى، إن كان القتيل من إحدى الطائفتين، أما إن كان من غيرهما فيجب على الطائفتين ديته.
السادسة: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هدر، وقال الثوري، وإسحاق بن راهويه: تجب ديته في بيت المال "الخزانة العامة للدولة".
السابعة: أن يوجد قتيل في محلة قوم وقبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وداود، وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة لينسب إليهم قتله، قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه، ولم يخالطهم غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة
القتيل، لما كان بين الأنصار واليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وتوجد رواية أخرى عن أحمد بمثل قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السابقة إلا في هذه الصورة؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالقسامة1.
أبو حنيفة يشترط وجود أثر بالقتيل:
اشترط أبو حنيفة وصاحباه، والثوري وجود أثر بالقتيل حتى يتحقق اللوث.
ويرى مالك، والشافعي، والحنابلة وجوب القسامة بنفس وجود القتيل في محلة قوم دون اشتراط الأثر الذي اشترطه أبو حنيفة ومن معه، وهذا الرأي مروي عن عمر وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين، وهو أيضا ما يراه ابن حزم2.
وبعد، فإن أحكام القسامة -كما يقول الشوكاني- مضطربة غاية الاضطراب، والأدلة فيها واردة على أنحاء مختلفة، ومذاهب العلماء في تفاصيلها متنوعة إلى أنواع ومتشعبة إلى شعب3.
1 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص144.
2 بداية المجتهد، ج2، ص469، والمغني، ج8، ص81.
3 نيل الأوطار، ج7، ص190.