الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الشهادة:
يجب على القاضي أن يحكم بموجبها إذا كانت مستوفية لشروطها؛ لأنها إذا كانت مستوفية لشروطها مظهرة للحق، والقاضي مأمور بالقضاء بالحق، قال تبارك وتعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1.
أداء الشهادة:
أداء الشهادة فرض كفاية على من علمها، فإن تعينت عليه لزمه القيام بها، وإن قام بها اثنان غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها القاضي، فإن كان قد تحملها جماعة فأداؤها واجب على الكل، فإذا امتنعوا أثموا جميعا كسائر فروض الكفايات.
1 سورة ص: الآية: 26.
ودليل وجوبها قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} 1، فقد نهى الله تبارك وتعالى عن الإباء عند الدعاء للشهادة، وهذا أمر بالحضور عند الدعاء، وقوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} 2، وهذا وعيد من الله عز وجل، واستحقاق الوعيد بترك الواجب. وقوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وفي الآية الأخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
ولأن الشهادة أماة فيلزمه أداؤها عند طلبها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
ومعنى أن الشهادة فرض على الكفاية، أنه إذا أدى الشهادة البعض من الناس سقط الفرض عن الباقين؛ لأنه إذا أبى جميع الناس أن يؤدوا الشهادة أدى هذا إلى إضاعة الحقوق، وإذا أجاب الناس كلهم إليها أدى هذا إلى تضييع الأعمال، فصارت لهذا فرضا على الكفاية3. فإذا عجز عن أدائها أو كان سيلحقه ضرر في بدنه، أو ماله، أو أهله، أو عرضه فقد أفتى بعض العلماء بأنها لا تجب عليه4، لقول الله عز وجل: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} 5.
1 سورة البقرة، الآية رقم:282.
2 سورة البقرة، الآية رقم:283.
3 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص256.
4 المغني، ج9، ص157، 158، وكشاف القناع، ج6، ص400.
5 سورة البقرة، الآية رقم 282.
يجب أداؤها عند الطلب:
يجب أداء الشهادة إذا طلبها المدعي لأنها حقه، فتتوقف على طلبه كسائر الحقوق، وإذا كان صاحب الحق لا يعلم بها، وخاف الشاهد فوت الحق على صاحبه، فيرى فريق من العلماء أن أداء الشهادة حينئذ مندوب وليس واجبا، وقال فريق آخر يجب عليه أن يشهد بلا طلب من صاحب الحق.
أما الذين يرون أن الأداء للشهادة حينئذ مندوب وليس فرضا، فقد استدلوا لرأيهم بقول الله تبارك وتعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فإن الله تبارك وتعالى فرض أداء الشهادة إذا دعي الشهداء إلى الأداء، فإذا لم يدع الشاهد إلى الأداء كان الأداء ندبا لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها".
وأما أصحاب الرأي القائل بالوجوب -وهو الصحيح- فيستندون إلى ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقد تعين أن ينصره بأداء الشهادة التي هي عنده، إحياء لحقه الذي يكاد أن يضيع عليه1. وهذا في حقوق الناس.
أما في حقوق الله تبارك وتعالى -وهي كل ما ليس للمكلف إسقاطه2- فيجب أداء الشهادة فيها بلا طلب من أحد، وقد استثنى العلماء من حقوق الله عز وجل الحدود، فبينوا أن الشاهد في الحدود مخير بين الستر والإظهار؛ لأن إقامة الحدود حسبة، والستر على المسلم حسبة، والستر أفضل، لقول الرسول -صلى الله
1 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص257.
2 كالطلاق، والرضاع، والعتق، والوقف على مسجد أو مدرسة، ونحوهما.
عليه وسلم- للذي شهد عنده: "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لماعز بالرجوع عن الإقرار بالزنا، وسأله عن حاله سترا عليه، وكفى به عليه الصلاة والسلام قدوة لنا. والنصوص القرآنية التي أمرت بأداء الشهادة محمولة على الشهادة في حقول الإنسان، بدليل السياق في قوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقول سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} فإن هذه النصوص الكريمة جاءت في سياق الكلام عن الديون بين العباد، وقال العلماء: إن الستر والكتمان إنما يحرم لخوف فوت حق المدعي المحتاج إلى إحياء حقه من الأموال وذلك في حق العباد، وأما الحدود فهي حقوق لله تبارك وتعالى وهو عز وجل موصوف بالغنى والكرم، وليس فيه فوت حقه فلهذا جاز للشاهد أن يختار جانب الستر في الحدود1.
لكن العلماء قالوا في السرقة: يجب على الشاهد أن يشهد بالمال فيقول: فلان أخذ المال، لكي يحفظ حق المسروق منه، ولا يقول: فلان سرق، لكي يصون يد السارق عن القطع، وبهذا يكون قد جمع بين الستر والإظهار2.
ويعجبني هنا تقسيم بعض العلماء -كسليمان الباجي، وابن فرحون من كبار فقهاء المالكية المشهورين- لحقوق الله تبارك وتعالى بالنسبة لأداء الشهادة، فقد قسمها هذا البعض إلى قسمين:
أحدهما: قسم لا يستدام فيه التحريم.
1 أنيس الفقهاء، ص236.
2 اللباب لعبد الغني الغنيمي، في شرح الكتاب لأحمد بن محمد القدوري، ج4، ص54، 55.
والثاني: قسم يستدام فيه التحريم.
فأما القسم الذي لا يستدام فيه التحريم مثل الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك فلا يضر الشاهد تركه لأداء الشهادة، والتعليل لهذا الحكم أنه بهذا العمل قد ستر على مرتكب الفعل، والستر في مثل ذلك جائز، بل مستحب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزال في قضية ماعز الذي اعترف للرسول صلى الله عليه وسلم بالزنا:"هلا سترته بردائك"، وإن كان ابن رشد قد أشار إلى أن هذا الحكم في حق من يندر منه مثل هذه الأفعال، وأما الإنسان الذي يكثر منه وقوع مثل هذه الأفعال وعمل أنه مشتهر ولا ينفك عنه فينبغي أن يشهد عليه، وأن يبلغ الحاكم بما ارتكبه من جريمة.
وأما القسم الذي يستدام فيه التحريم، وذلك كالطلاق، والخلع والرضاع، والعتق، والعفو عن القصاص، وتملك المساجد، والقناطر والطرق، وما أشبه ذلك فإنه يلزمه أن يخبر بشهادته وأن يبلغ الحاكم بما علمه.
وصرح بعض المالكية بأنه إذا لم يؤد الشهادة في هذا النوع من حقوق الله تبارك وتعالى، فإن ذلك يعد تجريحا له، فلا يصلح للشهادة بعد ذلك؛ لأن سكوته عن ذلك بعدم أدائه للشهادة جرحة في حقه إلا إذا ثبت أنه كان له عذر في عدم القيام بأداء الشهادة1.
وبان مما سبق أن الستر على المسلم في حقوق الله أفضل، لحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
1 تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون، ج1، ص206، بهامش فتح العلي المالك، والمنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص188.
وبين العلماء أن الستر مندوب وليس واجبا، فلو رفعه إلى الحاكم كان متعاطيا لأمر من الأمور الجائزة فلا يكون مرتكبا لإثم والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجه لوما إلى هزال في قصة ماعز، ولا أبان له أنه ارتكب إثما، بل حرضه على أنه كان ينبغي له أن يستره.
قال الصنعاني: بعد أن بين ذلك1: "فإن علم أنه تاب وأقلع حرم عليه ذكر ما وقع فيه ووجب عليه ستره، وهو في حق من لا يعرف بالفساد والتمادي في الطغيان، وأما من عرف بذلك فإنه لا يستحب الستر عليه، بل يرفع أمره إلى من له الولاية إذا لم يخف من ذلك مفسدة؛ وذلك لأن الستر عليه يغريه على الفساد ويجرئه على أذية العباد، ويجرئ غيره من أهل الشر والعناد، وهذا بعد انقضاء فعل المعصية، فأما إذا رآه وهو فيها فالواجب المبادرة لإنكارها والمنع منها مع القدرة على ذلك، ولا يحل تأخيره؛ لأنه من باب إنكار المنكر لا يحل تركه مع الإمكان".
وقال الصنعاني بعد ذلك: "وأما إذا رآه يسرق مال زيد فهل يجب عليه إخبار زيد بذلك أو ستر السارق؟ " وأجاب عن هذا السؤال بقوله: "الظاهر أنه يجب عليه إخبار زيد وإلا كان معينا للسارق بالكتم منه على الإثم، والله تعالى يقول:{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
ولما بيّن العلماء أن الستر مندوب، بينوا أن الشهادة تكون خلاف الأولى، قال الكمال بن الهمام:"وإذا كان الستر مندوبا إليه ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه؛ لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل وكراهة التنزيه في جانب الترك" ثم قال الكمال بن الهمام: "وهذا يجب أن
1 سبل السلام، ج4، ص169.
يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به، أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به، بل بعضهم ربما افتخر به فيجب كون الشهادة به أولى من تركها؛ لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض من المعاصي والفواحش بالخطابات المفيدة لذلك، وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين والزجر لهم، فإذا ظهر حال الشره في الزنا مثلا، والشرب، وعدم المبالاة به، وإشاعته، فإخلاء الأرض المطلوب حينئذ بالتوبة، احتمال يقابله ظهور عدمها ممن اتصف بذلك، فيجب تحقيق السبب الآخر للإخلاء وهو الحدود، بخلاف من زنى مرة أو مرارا متسترا متخوفا متندما عليه، فإنه محل استحباب ستر الشاهد"1.
وإذا كان الستر جائزا في حقوق الله بالنسبة إلى الشهود فهو جائز أيضا بالنسبة إلى مرتكب فاحشة كالزنا والخمر. كما بين الغزالي، فقد قسم العزالي الكذب إلى واجب ومباح ومحرم. وقال:"إن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب وحده فمباح إن أنتج تحصيل ذلك المقصود. وواجب إن وجب تحصيل ذلك. وهو إذا كان فيه عصمة من يجب إنقاذه، وكذا إذا خشي على الوديعة من ظالم وجب الإنكار والحلف، وكذا إذا كان لا يتم مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فهو مباح، ثم قال: وكذا إذا وقعت منه فاحشة كالزنا وشرب الخمر وسأله السلطان فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، ثم قال: "وينبغي أن تقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب، وإن كانت بالعكس أو شك فيها حرم الكذب، وإن تعلق بنفسه استحب أن لا يكذب، وإن تعلق بغيره لم تحسن المسامحة بحق
1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، ج5، ص214.
الغير، والحزم تركه حيث أبيح"1.
لا يجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان:
قال العلماء إنه لا تجوز الشهادة إلا بما يعلمه الإنسان، لقول الله تبارك وتعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، وقوله تبارك وتعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} 3.
ويذكر بعض العلماء في هذا المقام حديثا مرويا عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل:"ترى الشمس؟ "، قال: نعم، قال:"على مثلها فاشهد أو دع"، لكن ابن حجر العسقلاني أحد كبار علماء الحديث ضعف هذا الحديث، مع تصحيح الحاكم له، فقرر أن الحاكم أخطأ في تصحيح هذا الحديث؛ لأن في إسناده محمد بن سليمان بن مشمول، وقد ضعفه النسائي، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه4.
مدرك العلم الذي تقع به الشهادة:
مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان:
1-
الرؤية.
1 سبل السلام، ج4، ص202.
2 سورة الزخرف، الآية: 86 والآية بتمامها: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
3 سورة الإسراء، الآية رقم:36.
4 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص130، وكشاف القناع، ج6، ص402.
2-
السماع.
وما عدا ذلك من مدارك العلم، كالشم والذوق، واللمس، لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب.
فأما ما يقع بالرؤية فالأفعال، مثل الغصب، والإتلاف، والزنا، وشرب الخمر، وسائر الأفعال، وكذلك الصفات المرئية، كالعيوب في البيع ونحوها، فهذا لا تتحمل الشهادة فيه إلا بالرؤية؛ لأن الشهادة عليه ممكنة قطعا، فلا يرجع إلى غير ذلك.
وأما السماع فنوعان:
أحدهما: السماع من المشهود عليه، مثل العقود كالبيع، والإجارة، والرهن، وغير ذلك من الأقوال، فلا بد من سماع كلام المتعاقدين، ولكن هل لا بد من رؤية المتعاقدين أم يكفي سماع صوتيهما من غير رؤية:
يرى بعض العلماء أنه لا تجوز الشهادة إلا إذا شاهد الشاهد المشهود عليه، وهذا ما يراه أبو حنيفة، والشافعي؛ لأن الأصوات تتشابه، فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية، كالشهادة على الخط.
ويرى فريق آخر من العلماء أنه لا يشترط رؤية المتعاقدين إذا عرفهما الشاهد وتيقن كلامهما، وهذا ما يراه ابن عباس، والزهري، وربيعة، والليث بن سعد، وشريح، وعطاء، وابن أبي ليلى، ومالك، والحنابلة؛ لأن الشاهد عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته عليه كما لو كان رآه، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا، وقد يحصل العلم
بالسماع يقينا، وقد ثبت أن الشرع اعتبره، فإنه من الجائز رواية الحديث الشريف من غير رؤية، ولهذا قبلت رواية الأعمى للحديث، ورواية الذين رووا الحديث عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن، فإنهم رووا عنهن الحديث من غير رؤية لهن؛ لأن مخاطبة الرجال الأجانب لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم لا تجوز إلا من وراء حجاب، قال تبارك وتعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 1.
النوع الثاني من السماع: ما يعلمه بالاستفاضة:
وقد اتفق العلماء على صحة الشهادة بالاستفاضة في النسب، والولادة قال ابن المنذر: أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره، ولا يمكن المشاهدة فيه، ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه.
واختلف الفقهاء فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة، فيرى الحنابلة وبعض فقهاء الشافعية أن الشهادة بالاستفاضة تجوز على تسعة أشياء: الزوجية، والملك المطلق، أي: الذي لم يبين له سبب من عقد أو غيره، والوقف ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء2، والولاية، والعزل؛ لأن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب.
1 سورة الأحزاب، من الآية رقم:53.
2 إذا أعتق السيد عبده أو جاريته، نشأت علاقة بينهما تسمى الولاء، وهي علاقة أشبه بعلاقة النسب، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"الولاء لحمة كلحمة النسب" فتعطي للسيد حق ثبوت ميراث العبد الذي أعتقه، أو الجارية التي أعتقها إذا لم يكن للعبد أو الجارية من يرثه، أو وجد من يرثه لكنه لم يستغرق نصيبه كل التركة.
ويرى بعض آخر من فقهاء الشافعية أنه لا تجوز الشهادة بالاستفاضة في الوقف، والولاء، والعتق، والزوجية؛ لأن الشهادة ممكنة فيها بالقطع، فإنها شهادة بعقد، فتكون كالشهادة على سائر العقود، ويرى أبو حنيفة أن الشهادة بالاستفاضة لا تقبل إلا في الزواج، والموت، ولا تقبل في الملك المطلق؛ لأنها شهادة بمال فهي أشبه بالدين.
وقد رد ابن قدامة على بعض فقهاء الشافعية الذي يرى عدم جواز الشهادة بالاستفاضة في الوقف، والولاء، والعتق، والزوجية، بأن الشهادة هنا ليست بالعقود، وإنما الشاهد يشهد بالوقف الحاصل بالعقد، فهو بمنزلة الملك، وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد، وكذلك الحرية، والولاء، وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك1.
بم تحصل الاستفاضة؟
يرى الهادوية إحدى فرق الزيدية أن الاستفاضة شهرة في المحلة تثمر ظنا أو علما2. وعند بعض فقهاء الحنابلة أن الاستفاضة تحصل بكثرة الإخبار بالأمر الذي يشهد عليه، ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم، وعن بعض آخر من فقهاء الحنابلة، وهو قول المتأخرين من فقهاء الشافعية أنه يكفي أن يسمع الشاهد من اثنين عدلين ويسكن قلبه إلى خبرهما؛ لأن الحقوق تثبت بقول اثنين، وقد رجح ابن قدامة أن الاستفاضة تحصل بكثرة الإخبار بالأمر الذي يشهد عليه ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم، معللا هذا بأنه هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة، فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته3.
1 المغني، ج9، ص161، 162.
2 سبل السلام، ج4، ص130.
3 المغني، ج9، ص162.