الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحكيم في حد القذف والقصاص:
اختلفت آراء فقهاء المذهب الحنفي في حد القذف "أي: عقوبة اتهام الغير بجريمة الزنا بلا بينة" والقصاص، فيرى بعضهم جواز التحكيم فيهما، ويرى البعض الآخر عدم جواز التحكيم.
وقد علل للرأي القائل بجواز التحكيم في القصاص بأن الاستيفاء إليهما، وليس الحاكم هو المتعين للاستيفاء كما في الحدود الخالصة لله عز وجل،
والقصاص من حقوق الإنسان، فيجوز فيه التحكيم قياسا على التحكيم في الأموال.
وأما الرأي الثاني القائل بأن التحكيم لا يجوز في الحدود والقصاص، فقد علل له بأن حكم المحكم حجة فقط في حق اللذين حكماه، وليس حجة في حق غير المحكمين، فيكون في هذا شبهة والقصاص والحدود تدرأ بالشبهات.
وأيضًا فلأنه لا ولاية لهما على دمهما، ولهذا لا يملكان الإباحة، فلو قال شخص لشخص: اقتلني، فإنه لا يصح هذا الأمر الصادر منه، فلا يحل للآخر أن يقتله بناء على هذا الأمر1.
عند المالكية:
يرى المالكية أن التحكيم لا يجوز إلا في قضايا الأموال والجراح، سواء أكانت عمدا أم خطأ، ولو كانت الجراح عظما كقطع اليد أو الرجل، ويرون أن كل الحدود لا يجوز التحكيم فيها، وبناء على هذا فإن حد القذف لا يجوز التحكيم فيه، وقد عللوا لعدم جواز التحكيم في الحدود مطلقًا بأنه قد تعلق بها حق لغير الخصمين، فالحدود حق لله تعالى شرعت للزجر عن اقتراف الجرائم التي تستوجبها2.
وكذلك يرى المالكية أن التحكيم لا يجوز في القصاص، وعللوا لهذا بنفس التعليل الذي عللوا به في جانب الحدود، وهو أن الحق في القصاص لله تعالى؛ لأن القصاص إنما شرع للزجر عن الاعتداء على حياة الإنسان.
1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، وشرح العناية على الهداية للبابرتي، ج7، ص318.
2 الشرح الكبير، ج4، ص136.
وقد عد بعض فقهاء المالكية سبعة أمور لا يجوز التحكيم فيها، معللين ذلك بأن هذه الأمور لها قدر عظيم، فوجب أن يحتاط في شأنها، فلا يحكم فيها إلا من ولته الدولة ولاية عامة، والذي توليه الدولة ولاية عامة لا يكون ذلك إلا بعد التعرف على صفاته وقدراته التي تقتضي ذلك، ويكون في الأغلب مأمونا أمره، أو يكون الحاكم قدمه لمعنى يختص به في ضرورة داعية إليه.
وأيضًا فلأن هذه الأمور تعلق بها حق لغير الخصمين إما لله تعالى، أو للإنسان، فوجب أن يحكم فيها القضاة لا المحكمون، وهذه الأمور السبعة هي:
1-
الحدود: كالجلد، والرجم، وقطع يد السارق، وغيرها.
2-
اللعان1.
3-
القتل، سواء أكان عقوبة للارتداد عن الإسلام، أو لجريمة قطع الطريق، أو قصاصًا في النفس.
4-
الولاء2.
5-
النسب.
6-
الطلاق.
7-
العتق.
1 إذا اتهم الزوج زوجته بجريمة الزنا فقد أوجب عليه الشرع عقوبة القذف، وهي ثمانون جلدة، إلاإذا أقام أربعة شهود على ما يدعيه، أو يلاعن إن لم يستطع أن يقيم الشهود الأربعة، واللعان أن يقول عند الحاكم على المنبر في جماعة من المسلمين: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا أربع مرات، ويقول في الخامسة بعد أن يعظه الحاكم: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين. كفاية الأخيار، للحصنى، ج2، ص120.
2 إذا أعتق السيد عبده باختياره، أو عتق عليه جبرا، تنشأ صلة بينهما تسمى "الولاء"، يحق للسيد بمقتضى هذه الصلة أن يرث عتيقه هذا إذا لم يخلف وارثا غير سيده.
وقالوا إن الأمور التي تعلق بها حق الله تعالى هي: الحدود، والقتل، والعتق، والطلاق. فالحدود حق لله تعالى؛ لأنها وجبت زجرا عن ارتكاب ما يوجبها، والقتل قد يكون عقوبة لردة، أو لجريمة قطع الطريق، وكل هذا حق لله تعالى للتعدي على حرماته.
وقالوا إن الذي يدل على أن الحق في الطلاق لله تعالى أن المطلقة طلاقا بائنا لا يجوز إبقاؤها في عصمة مطلقها ولو رضيت بذلك.
والذي يدل على أن الحق في العتق لله تعالى أنه لا يجوز رد العبد للرق مرة ثانية بعد ما عتق، ولو رضي هو بذلك.
وأما الأمور التي تعلق بها حق الإنسان فهي: اللعان، والولاء، والنسب، فإن الحق في اللعان للولد؛ لأنه يترتب على اللعان قطع نسبه، والولد غير الخصمين اللذين هما الزوج والزوجة.
والحق في الولاء قد يكون لإنسان غير الخصمين، إذا كان النزاع بين المعتق وشخص آخر في الشخص المعتوق، بأن ادعى كل منهما أنه أعتقه.
والحق في النسب قد يكون لإنسان غير الخصمين، إذا كان النزاع بين الأب ورجل آخر، فالأب ينفي نسب الابن ويقول إن هذا ليس ابني، والرجل الآخر يقول إنه ابنك.
ومع أن بعض المالكية -كما ذكرنا- عد سبعة أمور لا يجوز التحكيم فيها، هي التي بيناها، فإن البعض الآخر منهم زاد عدة أمور أخرى هي أيضا عنده من
اختصاص القاضي لا الحكم، فلا يجوز عند هذا البعض التحكيم في فسخ الزواج ولا في إثبات الرشد، أو ضده وهو السفه "أي: عدم إحسان التصرف في الأموال" لشخص من الأشخاص، ولا يجوز في أمر الغائب مما يتعلق بماله، وزجته، وحياته وموته، ولا يجوز في الحبس، ولا في عقد مما يتعلق بصحته وفساده.
وقرر المالكية أن كل الأمور التي لا يجوز التحكيم فيها إذا حدث فيها تحكيم، وكان حكم المحكم صوابا فإنه يمضي، وليس لأحد الخصمين، ولا للقاضي حق نقضه؛ لأن حكم الحكم عندهم يرفع الخلاف كحكم القاضي، ولكن إذا نفذ الحكم، فإن الحاكم يؤدب المحكم؛ لأنه افتات على رئيس الدولة -إذا كان حكمه شرعيا- وعلى نوابه، وأما إذا حكم ولم ينفذ ما حكم به فلا أدب عليه، كما لو كان قد حكم بقتل، فعفى عن المحكوم عليه1. وبين المالكية أن الأمور التي تختص برئيس الدولة كالإقطاعات إذا حكم فيها المحكم لا ينفذ حكمه.
عند الشافعية:
وأما الشافعية فعلى الرأي القوي عندهم يجوز التحكيم في القصاص، ويوجد رأي غير قوي عندهم يقول بأن التحكيم لا يجوز إلا فيما دون القصاص والزواج، ونحوهما كاللعان وحد القذف2.
عند الحنابلة:
يرى بعض فقهاء الحنابلة أنه ينفذ حكم المحكم في جميع الأحكام إلا في أربعة أشياء: الزواج، واللعان، والقذف، والقصاص، وقال أبو الخطاب من فقهاء الحنابلة: ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه في هذه الأربعة3.
وصرح صاحب كشاف القناع من فقهاء الحنابلة بأن حكمه ينفذ في كل الأمور من مال، أو قصاص، أو حد، أو زواج، أو لعان، أو غيرها4 وكذلك يرى الشيعة الإمامية أن حكم المحكم ينفذ في كل الأمور5.
1 الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه، ج4، ص136، والشرح الصغير، للدردير، ج4، ص198-200.
2 نهاية المحتاج، ج8، ص243.
3 المغني، ج9، ص108.
4 كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، ج6، ص303، مطبعة الحكومة السعودية.
5 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للمحقق الحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص68، تحقيق عبد الحسين محمد علي.. منشورات، دار الأضواء، بيروت.