الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هروب المقر أثناء تنفيذ الحد:
كما اختلف العلماء في الرجوع عن الإقرار في الحدود هل يقبل أم لا؟ اختلفوا في هروب المقر أثناء تنفيذ الحد عليه، هل يعد رجوعا عن الإقرار أم لا؟ على رأيين:
أحدهما: ما يراه الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو أن هروبه يعد رجوعا عن الإقرار1؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد أن ذكر له أنهم قتلوا ماعزا على الرغم من هروبه:"هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"2.
الرأي الثاني: يراه فقهاء الشافعية في الأصح عندهم، وهو أن هروبه لا يسقط الحد عنه، وعللوا هذا بأنه قد صرح بالإقرار ولم يصرح بالرجوع، لكن مع هذا يرى فقهاء الشافعية أنه يجب الكف عنه في الحال، فلا يستمر تنفيذ الحد عليه، ولا يتبع، فإن رجع عن الإقرار قبل منه هذا الرجوع وإن لم يرجع عن إقراره نفذ الحد3.
الرأي الراجح:
نرى -كما يرى بعض الباحثين4- رجحان رأي الشافعية في الأصح عندهم؛ لأن الإنسان بطبيعته التي طبعه الله عليها يتأمل من العقوبات البدنية، كأي
1 رد المحتار، "حاشية ابن عابدين"، ج4، ص10، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، والشرح الصغير لأحمد الدردير، ج5، ص120، مطبعة المدني، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص318، والمغني، ج8، ص159، وفتح القدير لابن الهمام، ج5، ص222.
2 المغني، ج8، ص159، 160.
3 مغني المحتاج، ج4، ص151.
4 الزميل الدكتور أنور دبور في كتابه: الشبهات وأثرها في إسقاط الحدود، ص95.
حيوان آخر، فإذا اشتد به الألم فإنه عادة يحاول أن يوقف هذا الألم، ولو بالهروب من سبب الألم، وعلى هذا فالأولى أن لا يعتبر الهروب رجوعا عن الإقرار؛ لكن لأن القاعدة الشرعية أن الحدود تدرأ بالشبهات، وهروب المقر يصلح أن يكون شبهة تدرأ الحد عنه فإنه يجب أن يوقف التنفيذ في الحال، ولا يتبع، حتى نعلم منه أنه رجع عن إقراره فنتركه، وإلا تم تنفيذ الحد.
هذا، وقد بيّن بعض العلماء من الذاهبين إلى صحة الرجوع عن الإقرار بحقوق الله الخالصة أنه يسن للمقر بالزنا أن يرجع عن هذا الإقررا، بل صرحوا بأنه يسن له عدم الإقرار من أول الأمر، سترا على نفسه، ويجب عليه أن يتوب بينه وبين الله تبارك وتعالى، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أتى من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله تعالى، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد"، وصرحوا أيضًا بأنه يسن للشهود ترك الشهادة في جريمة الزنا، وكذلك يسن للقاضي، وغيره أن يعرض للمقر بالزنا بالرجوع، بأن يقول للمقر: لعلك قبلت، أو فاخذت، أو باشرت في غير الفرج، وما ماثل هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عرض لماعز -عندما اعترف بالزنا- بالرجوع، حيث قال له:"لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك فاخذت، أبك جنون"؟.
وقال العلماء أيضا إن من المستحب التعريض للمقر بالسرقة بالرجوع، فيقول القاضي للمقر بالسرقة مثلا: لعلك أخذت المسروق من غير حرزه، أو أنك ظننته مالك، لكن قال العلماء: لا يقول القاضي له: ارجع عن إقرارك، لئلا يكون آمرا له بالكذب على احتمال أنه صادق في إقراره.
حكم الرجوع في حد القذف:
وقد بين العلماء أن هذا بالنسبة للحدود التي تعد حقوقا خالصة لله عز وجل، أما حد القذف فلأنه فيه حقا لله عز وجل وحقا للإنسان -على اختلاف بين العلماء في أي الحقين هو الغالب1- فلا يجوز للقاضي ولا غيره أن يعرض فيه للمقر بالرجوع؛ لأنه يؤدي إلى ضياع حق الإنسان الذي طعن في شرفه وعرضه، وهو محتاج إلى دفع هذا العار الذي حاول أن يلصقه به المقر.
الرجوع عن الإقرار في السرقة يصح في حق العقوبة:
وقال بعض العلماء إن الرجوع عن الإقرار في السرقة يصح في حق العقوبة وهي قطع اليد، لا في حق المال؛ لأن حد السرقة حق خالص لله عز وجل، فيصح الرجوع عنه، فأما المال فحق الإنسان فلا يصح الرجوع فيه.
وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الإقرار فيه؛ لأن فيه حقا للإنسان فيكون المقر متهما في الرجوع فلا يصح كالرجوع عن الإقرار في سائر الحقوق الخالصة للإنسان.
الرجوع عن الإقرار بالقصاص:
وكذلك الرجوع عن الإقرار بالقصاص لا يصح؛ لأن القصاص حق خالص للإنسان فلا يحتمل الرجوع2.
1 اختلف العلماء في حد القذف، هل حق الله غالب فيه على حق الآدمي، أم أن حق الآدمي غالب على حق الله تبارك وتعالى، فيرى أبو حنيفة أن حق الله هو الأغلب كما في سائر الحدود، ويرى الشافعي أن الأغلب فيه حق الإنسان.
2 بدائع الصنائع، ج7، ص233.