الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب
؟
اتفق العلماء على أن الفاسق إذا عرفت توبته مما كان سببا في فسقه من أي جريمة تذهب العدالة، كالقتل، والزنا، والسرقة، وأكل الربا، ونحو ذلك، فإنه تقبل شهادته إلا من كان فسقه بسب جريمة القذف، وهي الرمي بالزنا على جهة التعيير أو نفي النسب، لا على جهة الشهادة، فقد اختلف العلماء في القاذف إذا تاب هل تقبل شهادته أما لا؟ 1.
فيرى جمهور العلماء قبول شهادته، ويرى أبو حنيفة عدم قبولها.
وسبب الخلاف بينهم أن الاستثناء الواقع في قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. هل يعود إلى أقرب مذكور إليه، وهو الفسق أو يعود
1 صرح بعض فقهاء الحنابلة بأن لا يشترط في التوبة إصلاح العمل، بل يكفي مجرد التوبة لكي نحكم على الشخص بأنه تاب، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ولأن شهادة الكافر تقبل بمجرد الإسلام فشهادة الفاسق تقبل بمجرد التوبة من باب أولى. كشاف القناع، ج6، ص419.
2 سورة النور الآية رقم: 4، والآية رقم: 5، وقد صرح بعض العلماء بأن توبة القاذف تكون بأن يكذب نفسه حتى لو كان صادقا فيقول: كذبت فيما قلت؛ لأنه كاذب في حكم الله تعالى بقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في الأمر نفسه صادقا، ويرى هذا الرأي الإمام الشافعي، وأما الإمام مالك فيرى أنه ليس من شرط توبته ولا يؤثر في قبول شهادته، رجوعه عن قذفه وإنما يعتبر في ذلك بصلاح حاله، ووجه الرأي الأول أن المعصية إذا كانت بالأقوال فإن التوبة منها بالقول، وتكذيب الإنسان لنفسه لجريمة الردة عن الإسلام لما كانت قولا كانت التوبة منها بتكذيب قوله المقدم. ووجه الرأي الثاني أن هذه توبة من ذنب، فكانت بالاستغفار والعمل الصالح كسائر الذنوب.
المنتقى، شرح موطأ مالك، ج5، ص208، وكشاف القناع، ج6، ص420.
الاستثناء إلى الجميع إلا ما خصصه الإجماع وهو أن التوبة لا تسقط الحد عنه.
فيرى أبو حنيفة أن الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يعود فقط إلى أقرب مذكور وهو وصفهم بالفسق فيرتفع الفسق فقط إذا تابوا، ولا يعود الاستثناء إلى غير ذلك.
وأما جمهور العلماء فيرون عود الاستثناء إلى جميع المذكور في الآية الكريمة، إلا ما خصصه الإجماع وهو عدم سقوط الحد بالتوبة1.
وهذه القاعدة التي اختلف الجمهور وأبو حنيفة حولها، وهي إذا تعقب الاستثناء جملا معطوفة هل يعود إلى جميعها كما يرى الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأصحابهما، أو يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور كما يرى أبو حنيفة، وجل أصحابه؟، هذه القاعدة أيضا سبب الخلاف بين العلماء فيها سببان:
السبب الأول: هل الجمل المعطوفة لها حكم الجملة الواحدة نظرا للعطف الذي فيها، أو أن لكل جملة من هذه الجمل المعطوفة لها حكمها المستقل، وحرف العطف محسن لا مشرك، وهذا هو الصحيح في عطف الجمل، بدليل أنه يجوز أن تعطف الجمل المختلفة بعضها على بعض كما هو المعروف في علم النحو.
السبب الثاني: هل الاستثناء نشبهه بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة
1 بداية المجتهد، ج2، ص503، ومغني المحتاج، ج4، ص434، وما بعدها، وكشاف القناع، ج6، ص423، وزوائد الكافي والمحرر على المقنع لعبد الرحمن بن عبيدان، ج2، ص229، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص204، وما بعدها، وتكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص112، واللباب، ج4، ص60، ووسائل الشيعة، ج18، ص282.
عليه، فإنه يعود إلى جميع الجمل عند الفقهاء أو لا نشبهه بالشرط؛ لأن تشبيهه بالشرط، نكون قد قسناه عليه، والقياس في اللغة لا يصح كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
ويرى القرطبي أن كلا الأمرين محتمل ولا ترجيح بينهما، ولهذا يتعين الوقف، وبين أن الإشكال يتأيد بأنه قد جاء في القرآن الكريم كلا الأمرين، فآية المحاربة قد عاد الضمير فيها إلى الجميع باتفاق العلماء، وهي قوله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
وآية قتل المؤمن خطأ الاستثناء فيها يعود على الأخيرة فقط باتفاق العلماء، وهي قول الله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 2. وآية القذف التي معنا الآن محتملة للوجهين.
ثم بيّن القرطبي أن علماء المالكية يقولون إن هذا من ناحية النظر الكلي الأصولي، وبين أنه يترجح قول مالك والشافعي من ناحية النظر الفقهي الجزئي، بأن يقال: الاستثناء في آية القذف راجع إلى الفسق، والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يثبت التفريق بين ذلك بحديث يجب التسليم له.
1 سورة المائدة، الآيتان: 33، 34.
2 سورة النساء، الآية:92.
وأيضًا فإن الإجماع قد قام على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما هو أقل من الكفر أولى.
ونقل القرطبي عن أبي عبيد قوله الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، معللا ذلك بأنه ليس من نسب إنسان إلى الزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن $"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع.
ونقل القرطبي أيضا عن الزجاج قوله: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، وقال الزجاج: وقوله: {أَبَدًا} أي: ما دام قاذفا، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن معناه ما دام كافرا.
ومما يؤيد قبول شهادة التائب من القذف -عند أصحاب هذا الرأي- أنه إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام الأصوليين، فقول الله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي: لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟ 1.
وعلى الرأي القائل بقبول شهادة التائب من القذف ففي أي شيء تقبل شهادته؟ اختلف العلماء في هذا أيضًا، فيرى بعض العلماء أن شهادته تقبل في كل شيء إلا في القذف، ويعلل لهذا الرأي أن الصفات التي طبعت عليها الناس
1 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج12، ص180، 181.
أن من كانت به وصمة أو تورط في أمر من الأمور يحرص على أن يلحق ذلك بغيره من الناس حتى يساووه في هذا الأمر وينفي عنه معرة ذلك، فيتهم أن يشهد على غيره بما وافقه ليساويه.
ويرى بعض آخر من العلماء أن من أقيم عليه الحد في جريمة قذف أو زنا فإن شهادته تقبل في القذف والزنا وغيره، وعلل لهذا الرأي بأنه إذا حكمنا بعدالته فإن هذا ينفي مثل هذه التهمة عنه، فإذا قبلنا شهادته في غير ذلك من الحد وجب أن نقبل شهادته في جريمة القذف1.
الشرط الخامس من شروط أداء الشهادة: النطق
فلا تقبل الشهادة من الأخرس، حتى لو كانت إشارته مفهومة؛ لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين، وإنما اكتفي بإشارة الأخرس في أحكامه المختصة به للضرورة، وهذا ما يراه فقهاء الحنفية ومالك وأحمد، وهو قول للشافعي، والأصح من قوله أن شهادته مقبولة إذا كانت إشارته مفهومة2.
الشرط السادس: كونه يقظانا
فلا تقبل شهادة مغفل لا يضبط الأمور، ولا كثير الغلط والنسيان؛ لأن الثقة لا تحصل بقوله؛ لأنه من المحتمل أن تكون شهادته في الأمور التي غلط فيها وسها؛ ولأنه ربما شهد على غير من استشهد عليه3.
1 المنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص208.
2 كشاف القناع، ج6، ص411، وفتح القدير، للكمال بن الهمام، ج7، ص399.
3 كشاف القناع، ج6، ص412.
الشرط السابع: كونه غير متهم بتهمة ترد شهادته:
فلا تقبل شهادة المتهم، لقول الله تبارك وتعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} 1، والريبة حاصلة في المتهم، ولما روى الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجوز شهادة ذي الظنة، ولا ذي الحنة".
ومعنى الظنة -بكسر الظاء وتشديد النون- التهمة2، ومعنى الحنة -بكسر الحاء وفتح النون بلا تشديد: العداوة.
وقد بيّن العلماء أن أصل رد الشهادة ومبناه التهمة؛ لأنها خبر يحتمل الصدق والكذب، وإنما تحصل الحجة بهذا الخبر بترجيح جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وبوجود التهمة أي: الشك والريبة لا يترجح جانب الصدق، كما بيّن العلماء أن التهمة قد تكون لمعنى في الشاهد كما لو كان فاسقا، فإن من لم ينزجر عن غير الكذب من المحرمات فقد لا ينزجر عن الكذب أيضا، فكان متهما بالكذب، وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له من قرابة يتهم بها بإيثار المشهود له على المشهود عليه، وقد تكون لخلل في أداء التمييز كالعجمي المفضي إلى تهمة الغلط في الشهادة3.
ومعنى التهمة أن يجر بشهادته نفعا إلى نفسه أو إلى من لا تقبل شهادته له، أو يدفع عنها أو عمن ذكر ضررا4، هذا، وسنتكلم عن حكم شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وشهادة أحد الزوجين للآخر، وشهادة الأخ لأخيه، وشهادة العدو على عدوه.
1 سورة البقرة، الآية رقم:282.
2 التهمة بضم التاء وفتح الهاء.
3 العناية على الهداية، للبابرتي، ج7، ص397.
4 نهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص300.