الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان
عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"، رواه الجماعة.
هذا الحديث الشريف يبين أصلا هاما في أصول القضاء الإسلامي، وسبب النهي -كما قال علماؤنا، رضي الله تعالى عنهم- أن الحكم في حال استيلاء الغضب على الحاكم قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق، فمنع من ذلك، وقالوا أيضا: النهي عن الحكم حال الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه المطلوب شرعا.
وإذا كان النهي عن الحكم في حال الغضب قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الفقهاء رضي الله عنهم عدوه بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع، والعطش المفرطين، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وغلبة النعاس وشدة الخوف أو الحزن أو الهم أو السرور، وسائر الأمور التي يتعلق بها القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب وهو قياس مظنة، على مظنة كما قال ابن دقيق العيد1، أي: استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لما نهى عن الحكم حال الغضب فهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حال استقامة الفكر، فكان علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر واختلاله، والوصف بالغضب يسمى علة، بمعنى أنه مشتمل عليه، فألحق به ما في معناه كالجائع والعطشان2.
وبعبارة أخرى فإن اقترن النهي بالغضب يشير إلى أن العلة في هذا النهي هي الغضب الذي يكون مظنة لتشويش الفكر، ولما كان التشويش معنى مناسبا لهذا الحكم، ومنضبطا فقد جعله العلماء علة بالإجماع، ولهذا قال العلماء بتحريم قضاء القاضي في كل حال يحصل له فيها تشويش الفكر بأي سبب من الأسباب، قياسا على القضاء في حال الغضب الذي ورد فيه النهي من رسول الله -صلى الله عليه
1 فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص137.
2 المصدر السابق، ج13، ص137.
وسلم1، ومثل هذا يسميه علماء الأصول دلالة النص على أن الوصف علة بطريق الإيماء أي: بطريق التلميح.
وهنا يمكن أن يثار سؤال هو لماذا اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكر الغضب؟ وقد أجاب العلماء بقولهم: وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس، وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره.
هذا وقد رأى بعض العلماء أنه يكره أن يقضي القاضي في حال الغضب، سواء أكان الغضب لنفسه أم لله تعالى؛ لأن المحذور تشويش الفكر وهو لا يختلف بذلك، ويرى البعض الآخر أن القضاء مكروه حال الغضب لنفسه، وأما إذا كان الغضب لله تعالى فلا يكون القضاء مكروها في هذه الحال، كما بين بعض العلماء أن الكراهة تنتفي إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال2.
لو خالف القاضي فحكم في حال الغضب:
تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الحاكم عن أن يحكم في حال الغضب، والسؤال الآن، ماذا لو خالف القاضي النهي فحكم في حال غضبه؟
اختلف العلماء فيما لو قضى القاضي في حال الغضب على الوجه الآتي:
الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وهو صحة القضاء حال الغضب إن صادف الحق.
وقد استند هذا الرأي إلى ما رواه عبد الله بن الزبير عن أبيه، أن رجلا من
1 أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان، ص153.
2 نهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص242.
الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة1، التي يسقوا بها النخل، فقال الأنصاري: سرح2 الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير:"اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك"، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك3. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال الزبير:"اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"،4 فقال الزبير: والله إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
وجه الاستدلال بالحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه خصمه.
وكأن الجمهور جعلوا ذلك قرينة صرفت النهي الموجود في حديث: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" من التحريم إلى الكراهة، لكن يمكن أن يجاب عن هذا بما قاله الشوكاني: "ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وسلم به في مثل ذلك؛ لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه
1 الشراج -بكسر الشين- هي مسايل النخل والشجر، مفردها شرجة، وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها، والحرة: بفتح الحاء، هي أرض ذات حجارة سود.
2 سرح الماء -بفتح السين وتشديد الراء المكسورة- أي: أرسله.
3 أن كان ابن عمتك -بفتح الهمزة- لأنه استفهام للاستنكار أي: حكمت بهذا لكونه ابن عمتك، قال العلماء: وإنما ترك صلى الله عليه وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لأجل القرابة؛ لأن ذلك كان في أوائل الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف الناس إذ ذاك.
4 الجدر -بفتح الجيم وسكون الدال- هو الجدار، والمراد به أصل الحائط.
بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ.
الرأي الثاني: ما يراه بعض الحنابلة، وهو أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب، واستدلوا بالنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء في حال الغضب والنهي يقتضي الفساد.
وقد أجيب عن هذا بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه1، أو لجزئه2 أو لوصفه الملازم له3، لا المفارق كما هنا وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة، وهذه قاعدة مقررة في الأصول.
الرأي الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الغضب قد طرأ على القاضي بعد أن استبان له الحكم في القضية المعروضة عليه، فلا يؤثر الغضب في صحة الحكم؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه، وبين ما إذا كان الغضب قد حصل للقاضي قبل أن يستبين له الحكم في القضية فيؤثر في صحة الحكم4.
1 النهي لذات المنهي عنه كالنهي عن الزنا، والغصب، فالزنا لا يترتب عليه ثبوت النسب ولا حرمة المصاهرة بل يأثم فاعله ويستحق أن يعاقب.
2 كأن كان المنهي عنه قولا، والنهي عنه لخلل في أركانه كالنهي عن بيع الميتة.
3 النهي للوصف الملازم، كالنهي عن الصوم يوم العيد، والنهي عن البيع المشتمل على الربا، فالنهي عن الصوم يوم العيد ليس لذات الصوم؛ لأن الصوم عبادة فلا ينهى عنه لذاته، وإنما النهي عنه للإعراض عن ضيافة الله تعالى في هذا اليوم، وكذلك النهي عن البيع المشتمل على الربا ليس لذات البيع، بل لوجود الزيادة الخالية عن العوض.
4 نيل الأوطار، ج9، ص177-179، والمغني ج1، ص394-395، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل لصالح عبد السميع الأبي، ج2، ص225، دار إحياء الكتب العربية. ونهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص242.