الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فالإشارة إلى أنّ العلم الدنيوي عامل من عوامل الغرور الصاد عن متابعة الرسل، معجزة من معجزات هذا القرآن، وهي معجزة لا يدرك الإنسان مداها كما يدركه في عصرنا، إذ وصل الغرور البشري إلى ذروته، فأصبح أهل العلم بقوانين هذا الكون يحتقرون كل العلوم الدينية إلا المنصفين منهم، وقليل ما هم، قال صاحب الظلال:(والعلم- بغير إيمان- فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون، ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل. وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه).
كلمة أخيرة في سورة غافر ومحلّها من مجموعتها:
رأينا أن محور سورة غافر هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وقد رأينا في السورة الكثير مما له علاقة بالمحور، فرأينا أنّ علامة الكفر هي المجادلة في آيات الله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.
ورأينا أنّ الجدال في آيات الله هو علامة الطبع على القلب. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.
ورأينا أن العلّة الحقيقية للجدال في آيات الله هي الكبر: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ.
ورأينا أن المجادلين في آيات الله مصروفون عن الحق بسبب العمى والصمم، اللذين يصاب بهما القلب الكافر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ.
ورأينا في السورة: استحقاق الكافرين لعذاب الله في الدنيا، ورأينا صورة عن عذابهم في البرزخ، ورأينا صورة عن عذابهم يوم القيامة، ورأينا- مع هذا كله- كيف أن الحجة قائمة عليهم، ورأينا أدب النذير، ونماذج من الإنذار، ورأينا ما ينبغي أن يفعله النذير في مقابلة كفر الكافرين، وارتباط ذلك كله بمحور السورة واضح.
وقد رأينا من قبل أنّ سورة (ص) فصّلت في نفس المحور، ورأينا أنّ سورة الأنبياء فصّلت في نفس المحور، ولو تأمّلنا هذه السور لوجدنا أن كل سورة منهنّ قد فصّلت
في مجال، وأبرزته ووضّحته، فالمحور وإن كان واحدا لكن التفصيل والسياق الخاص لكل سورة متعدد، ولكل سورة روحها الخاصة بها. وبمجموع السور التي تفصّل محورا واحدا يتكامل التفصيل للمحور، وكل سورة في محلها تخدم مجموعتها، وتترابط معها بحيث تؤدي مع مجموعتها خدمة متكاملة لمجموع القرآن، وذلك من عجائب هذا القرآن التي لا يحيط بها أحد إلا الله.
لاحظ ماذا أدّته سورة الزمر؟.
سورة الزمر فصّلت في نقطة البداية للاهتداء بهذا القرآن، وبيّنت أنّ الاهتداء بهذا القرآن لصالح الإنسان. وجاءت سورة غافر فبيّنت خطر المجادلة في آيات الله، وربّت على التسليم. وستأتي سورة (فصّلت) لتبين مواقف الكافرين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن القرآن، وتردّ عليها، وتبيّن ملامح الطريق إلى الله، وتدفع المسلم إلى السير الصحيح فيه، وهكذا تجد أنّ المجموعة كمّلت بعضها بعضا، مع كون كل سورة قد خدمت محورها في سياقها الرئيسي.
والملاحظ أن سورة غافر فصّلت في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة، من خلال سياقها، وما ذلك إلا لأنّ الآيات الأولى من سورة البقرة الواردة في المتقين هي المقدمة الصحيحة للكلام عن الكافرين، وسنلاحظ أنّ سورة (فصّلت) ستفصّل في الآيات نفسها، وفي الآيات التي تتحدّث عن الكافرين، حتى إنّ مقدمتها لتكاد تكون إجمالا لذلك كله. وما ذلك إلا لأنّ هذا كله مقدمة بديهية لمضمونها، فسورة (فصّلت) تلخّص مضمون السورتين السابقتين، ثم تنطلق في موضوعها الخاص .. وسورة (غافر) تلخّص مضمون سورة (الزمر)، وتنطلق في سياقها الخاص ومن ثمّ نجد ما يلي:
تبدأ سورة الزمر بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وسورة غافر تبدأ بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ .. ثم تحدثت عن الكافرين، وسورة فصّلت تلخص في مقدمتها مضمون السورتين السابقتين، وتنطلق فنجد بدايتها: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فالسورة اللاحقة في المجموعة تلخّص مضامين ما قبلها وتبني عليها.
كنا قد سجّلنا معنى في سورة الزمر: هو أن سورة الزمر بدأت بذكر اسمين من أسماء الله عز وجل. الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقلنا إنه يلاحظ أنّ السورة يظهر فيها آثار هذين الاسمين فهي مجلى لهما.
ونلاحظ أن سورة غافر بدأت بذكر ستة أسماء لله عز وجل هي: العزيز- العليم- غافر الذنب- قابل التوب- شديد العقاب- ذو الطول- ومن تأمّل السورة وجد مظهر اسم الله العزيز في سياقها، سواء في نصرة الرسل، أو في تعذيب الكافرين، أو في عقوبة من يجادل في آياته، كما يجد فيها مظهر اسم الله العليم في سياقها عامة، سواء في ذكر أدق خفايا النفس البشرية، أو في عرضها ما لا يعلمه إلا الله، كما يجد فيها مظهر اسم الله غافر الذنب، نرى ذلك عند ما تحدّثنا عن دعاء الملائكة لأهل الإيمان بالغفران وكذلك قابل التوب فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ كما تجد فيها مظهر اسم الله ذي الطول في إنعامه على المؤمنين وعلى الرسل، كما نجد فيها مظهر اسم الله شديد العقاب، في الكلام عن معاقبته المكذبين للرسل، فالسّورة مجلى لأسماء الله التي ذكرت في بدايتها، وفي كون السور القرآنية تظهر فيها آثار أسماء الله عز وجل، وتعرفنا على هذه الأسماء فذلك وحده دليل على أن هذا القرآن من عند الله، فالكلام صفة المتكلم.
لقد جعل الله الكون مجلى لأسمائه، وجعل كتابه مجلى لأسمائه، فمن لم ير الله في الكون، ويره في القرآن فإنه أعمى، ومن شك أن هذا الكون ليس من خلق الله، أو شك أن هذا القرآن ليس كلام الله، فإنه أعمى.
هذه سورة غافر تنسجم بداياتها ونهاياتها وأواسطها مع بعضها. وتخدم محورها، وتخدم مجموعتها، وتتداخل هذه المعاني كلها مع السياق الخاص للسورة.
أليس هذا من العجب العجيب؟! أو ليس الكفر بعد ذلك ضربا من الخيال العقلي الواضح؟!
***