الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد أن ذكر الله عز وجل النّموذج الكامل للموقف الحقّ من ضلال الآباء يعود السياق ليحدّثنا عن موقف المشركين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أسباب اغترارهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة، وهم المخاطبون الأوائل بهذا القرآن، وهم من عقب إبراهيم عليه السلام. أي: متّعهم الله بالمدّ في العمر والنّعمة، فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعّم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي: واضح الرسالة بما معه من الآيات وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو من نسل إبراهيم عليه السلام، فلا عجب أن يحمل راية التوحيد ويدعو إليها بأمر الله ووحيه، ولكنّهم بدلا من أن يرجعوا إلى الحقّ كان موقفهم
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ قال ابن كثير: أي كابروه وعاندوه ودفعوه بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا.
كلمة في السياق:
وهكذا استقر السياق على موقفهم من القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ.
فلنلق نظرة على ما مر معنا من السورة وعلى صلة ذلك بالمحور.
بدأت السورة بقوله تعالى: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وهكذا بينت هذه الآيات بعض خصائص القرآن، ثمّ جاء بعد ذلك ما يفهم منه ضمنا موقفهم من القرآن:
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ فعرفنا ضمنا أنّهم استهزءوا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسار السياق حتى وصل إلى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ فعرفنا صراحة أنهم كفروا بهذا القرآن، ثمّ يأتي بعد ذلك أنهم يعترضون على الله في إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ويرون أن غيره أحق بذلك منه- وهو موضوع سيأتي-.
وفي وسط الآيات التي مرّت ناقش الله عز وجل ما هم عليه من اعتقاد وعبادة، وأقام عليهم الحجة وذكر علّة موقفهم وهي التقليد. ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام في هذا السياق كنموذج على التحرر من التقليد الباطل، فأتمّ بذلك معالجة الاعتقاد الضال
الذي هو أصل البلاء. وفي ذلك كله نرى كيف أن القرآن في غاية البيان والوضوح، وفي غاية الفصاحة والبلاغة. وفي غاية العلو في إقامة الحجة، وفي غاية الحكمة في معالجة الباطل وتقرير الحق. فالسورة نموذج كامل على اتصاف القرآن بالخصائص التي ذكرتها بداية السورة. ومن ثم يتقرّر أنّ هذا القرآن لا ريب فيه، وأنّه من عند الله، ومن ثم ندرك الصلة بين السورة ومحورها من سورة البقرة وهو: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .. : فالقرآن منزل من عند الله لا شك في ذلك، والحجة قائمة، ومع ذلك يكفرون، وبدلا من أن يؤمنوا بالله والرسول والقرآن فإنهم يعترضون على الله في إنزاله القرآن، وهو المعنى الأول الذي ورد قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فلنر تتمة المقطع.
وَقالُوا معترضين على الله الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ مكة والطائف عَظِيمٍ أرادوا بالعظيم من كان ذا مال وجاه، ولم يعرفوا أن العظيم من كان عند الله عظيما، قال ابن كثير: أي هل كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف) وبعد أن ذكر ابن كثير أسماء مرشحيهم لهذا المنصب- في زعمهم كما سنذكرها في الفوائد- قال: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. قال الله تعالى وتبارك ردا عليهم
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي: النبوة، والاستفهام للإنكار المتلبس بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة. قال ابن كثير:
أي ليس الأمر مردودا إليهم بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا. ثم قال عز وجل مبيّنا أنّه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ أي:
ما يعيشون به، وهو أرزاقهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال النسفي: أي لم نجعل قسمة الأدون إليهم وهو الرزق فكيف النبوة؟. أو كما فضّلت البعض على البعض في الرزق فكذا أخصّ بالنّبوة من أشاء وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: جعلنا البعض أغنياء وأقوياء وأسيادا والبعض غير ذلك. وجعلنا البعض أذكياء وعقلاء، والبعض غير ذلك، وهكذا. ثمّ بين الله عز وجل الحكمة في هذا التفاوت فقال
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي: ليسخّر بعضهم بعضا في الأعمال؛ لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا. وفي كتابنا (الإسلام) عند الكلام عن نظام الملكية في الإسلام تحدثنا عن حكمة ذلك في الحياة فليراجع. إنّ النّاس لو كانوا متساوين في كل شئ لتهدّمت المصالح والمنافع؛ إذ الجميع في هذه الحالة صالحون للرئاسة، والجميع صالحون للسيادة، والجميع صالحون للقيادة، فيصبح الجسم البشري مجموعة رءوس.
وكيف تقوم حياة الجسم البشري بلا قلب ولا أطراف ولا خدمات. وفي الحياة الاقتصادية لا بد أن يوجد التفاوت الناشئ عن التفاوت في الخلقة: فهذا نشيط، وهذا كسلان، وهذا بصير في أمر التجارة، وهذا لا يدرك من أمورها شيئا، ولو أنك وزعت الأموال على الناس بالتساوي ثم تركتهم يعملون سنة لوجدت التفاوت قد عاد، ولو أنك أرجعت الأمر إلى المساواة لتعطّل العمل؛ إذ عند ما نأخذ من النشيط لنعطي الكسلان، يزداد الكسلان كسلا ويترك النشيط العمل، ومن ثم كانت سنة الله التفاوت، ولكن شريعته عز وجل هي التي تعدّل هذا التفاوت فلا يشتط ولا يزداد بحيث تصبح رءوس الأموال بأيد قليلة، فالنظام الاقتصادي في الإسلام لا يبقي أحدا في المجتمع إلا وهو في حالة طيّبة، وبالإسلام لا تقوم في المجتمع علاقات ظالمة. كل هذا وغيره رتّبته الشريعة. ثم قال تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: النبوة، أو دين الله، وما يتبعه من الفوز في المآب خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا، وفي ذلك توجيه للمسلم ألّا تميل عينه عن الحق بسبب رفاهية الكافرين، ولا يعني هذا أنّ المجتمع الإسلامي لا يكون في حالة رفاهية، بل يعني أنه إذا وجدت الرفاهية في المجتمع الكافر فلا ينبغي أن تميل عين المسلم عن الحق من أجلها. وكذلك إذا وجد بعض المترفين في المجتمع الإسلامي.
قال ابن كثير: (أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا) وفي هذا الذي قاله ابن كثير إشارة إلى أنّ الإنسان عليه أن يعتمد على الله ويتّكل عليه، وألّا يكون بما في يده أوثق منه ممّا في يد الله عز وجل.
ولمّا قلّل الله عز وجل أمر الدنيا وحقّرها أردفه بما يقرّر حقارتها عنده فقال: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قال النسفي: أي ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه. وقال ابن كثير: أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لَجَعَلْنا لحقارة الدنيا عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ أي: سلالم ودرجا من فضة عَلَيْها