الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في سورة (ق) ومحورها:
يرجّح ابن كثير أن قسم المفصّل يبدأ بسورة (ق) ويفند كل قول آخر، وهذا كلامه: (هذه السورة هي أول الحزب المفصّل على الصحيح، وقيل من الحجرات.
وأما ما يقوله العوام إنه من (عمّ) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصّل ما رواه أبو داود في سننه (باب تحزيب القرآن) ثم قال: قال عبد الله بن سعيد: حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له قال مسدد- وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قال أبو سعيد: قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثنا صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه قريش، ثم يقول صلى الله عليه وسلم «لا أساء وكنا مستضعفين مستذلين» قال مسدد بمكة «فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم، ندال عليهم ويدالون علينا» فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة قال صلى الله عليه وسلم: «إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزّبون القرآن فقالوا: ثلاث وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصّل وحده، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواه الإمام أحمد، إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدها سورة ق. بيانه:(ثلاث) البقرة وآل عمران والنساء (وخمس) المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة (وسبع) يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل (وتسع) سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان (وأحد عشرة) الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس (وثلاث عشرة) الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصّل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعيّن أن أوله سورة ق، وهو الذي قلناه ولله الحمد والمنّة).
أقول: الذي أذهب إليه في هذا الموضوع أن سورة الذاريات هي بداية قسم
المفصّل، وأن سورة (ق) ينتهي بها قسم المثاني، والذي دعاني إلى هذا القول استقرائي لمعاني القرآن وأسلوبه، فقد رأينا في سورة الصافات أنها كانت بداية لمجموعة، وهي مبدوءة بقسم مباشر وَالصَّافَّاتِ فهي تشبه سورة وَالذَّارِياتِ ومن ثم قلنا:
إن سورة الذاريات بداية مجموعة، وبداية قسم، وسنرى في المفصّل بشكل واضح أنه حيث جاء القسم بشكل مباشر فذلك علامة على بداية مجموعة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً
…
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً
…
وَالسَّماءِ
…
وَالْفَجْرِ
…
وَالتِّينِ
…
وَالْعَصْرِ
…
فهذا أول شئ دعانا إلى اعتبار الذاريات هي بداية قسم المفصّل، ثم لاحظنا من قبل أن سورة الشورى مبدوءة بقوله تعالى حم عسق مما يشير إلى أن سورة (ق) مشدودة إلى هذا القسم الذي فيه سورة الشورى، فهي ألصق بقسم المثاني، وهذا معنى ثان دعانا إلى هذا القول وهو أنّ سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وليست بداية قسم المفصّل. ومن كلام العرب (قلت لها قفي فقالت قاف) أي وقفت فعبّر بالحرف عن الكلمة، وهذا البيت مشهور عند العرب، والوقوف يتضمن معنى نهاية السير، ولا نستبعد أن يكون ختم قسم المثاني بحرف (قاف) يتضمن إشارة إلى أن سورة (ق) نهاية سير قسم المثاني، وهذا معنى آخر نستأنس به على أن سورة (ق) نهاية قسم، وقد ذكر ابن كثير أن أحد الأقوال الضعيفة في (ق) أنه إشارة إلى كلمة وهو قول مردود، ولذلك فقد استأنست به استئناسا قال ابن كثير:(وقيل المراد قضي الأمر والله، وأن قوله جل ثناؤه ق دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر* قلت لها قفي فقالت ق* وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟). وقد استأنست استئناسا بأصل الفكرة أن يكون في الحرف قاف إشارة إلى معنى الوقوف، خاصة والعرب استعملته في ذلك. وأهم من كل ما ذكرته في الاستدلال على أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وليست بداية قسم المفصّل هو معناها ومحلها وصلتها بما قبلها، وتفصيلها لمحور يأتي في أعماق سورة البقرة بينما تفصّل سورة الذاريات في مقدمة سورة البقرة بشكل واضح كما سنرى، مما يؤكد أن سورة الذاريات بداية قسم، وأن سورة (ق) نهاية قسم.
فإذا اتضحت هذه المعاني وعرفنا كما ذكرنا من قبل وكما سنذكر في ابتداء الكلام عن المفصّل أنّ القضية اجتهادية، بدليل كثرة الأقوال فيها، مما يشير إلى أن ما ورد في الموضوع ليس حاسما فإن ما ذهبنا إليه له وجهه، مع ملاحظة أن الدليل الوحيد الذي
ذكره ابن كثير يمكن أن يوجّه لصالح ما ذهبنا إليه، فمن المعلوم أن عثمان رضي الله عنه لم يذكر هو والصحابة الذين نسخوا المصحف (بسم الله الرحمن الرحيم) بين سورة الأنفال وسورة براءة لمظنة أنهما سورة واحدة، وقد رأينا في أول التفسير ما ذكره ابن كثير في تفسير السبع الطوال عن سعيد بن جبير قال:(هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس) فلم يذكر هنا الأنفال ولا براءة مع أن براءة أطول من سورة يونس، كل ذلك يجعلنا نتصوّر أن الأثر الذي استدل به ابن كثير في الاستشهاد على أن سورة (ق) بداية قسم المفصّل يمكن أن يكون لصالحنا، فإذا اعتبرنا أن سورة الأنفال وبراءة في تقييم بعض الصحابة سورة واحدة فهذا يعني أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وأن سورة الذاريات هي بداية قسم المفصّل. إن ابن كثير جعل الأنفال وبراءة سورتين، وجعل سورة يونس في ورد اليوم الثالث، فاحتمال أن تكون سورة يونس من ورد اليوم الثاني، وبراءة والأنفال سورة واحدة احتمال قائم، وهو لصالح ما اجتهدنا إليه، هذا ونحب أن نلفت نظر القارئ إلى أن ذكر أسماء السور في اليوم الأول والثاني والثالث .... هو من فعل ابن كثير وليس مذكورا في نص الأثر، فالأثر اكتفى بالقول: ثلاث وخمس وسبع، فلمّا فصّلها ابن كثير خرجت معه سورة (ق) على أنها بداية المفصّل، أما إذا نظرنا إلى واقع الأمر في عصر الصحابة من احتمال بعضهم كون الأنفال وبراءة سورة واحدة، ومن عدم عدّ بعضهم الأنفال وبراءة في السبع الطول، فكل ذلك يجعلنا نقول إن الأثر يحتمل أن يكون لصالح قولنا، فإذا أضفنا إلى هذه المعاني
التي استأنسنا بها لقولنا فإن الراجح أن يكون قولنا هو الصحيح، والله أعلم.
وهذا قول أضيفه إلى مجموعة أقوال في قضية خلافية، وفي ظني أن له وجهه الأقوى، وليس هناك نص عن الصحابة أنّ بداية المفصّل هو الحجرات أو قاف، وإنما المنقول عنهم هو ما ذكرناه، وهو محتمل لما ذهبنا إليه، ولما ذهب إليه ابن كثير، وهو ليس نصا في الموضوع، وإلا لقطع الخلاف، والخلاف لم ينقطع من قبل.
إن سورة (ق) وهي خاتمة قسم المثاني تجد فيها من كل مجموعة من مجموعات قسم المثاني روحا ونفسا وأثرا وصلات وروابط وهذه أمثلة:
- جاء في سورة سبأ من المجموعة الأولى من قسم المثاني قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (الآية: 9) وجاء في سورة (يس) من المجموعة الأولى قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ (الآية: 11) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
- وجاء في سورة (ص) من المجموعة الثانية من قسم المثاني قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (الآية: 1، 2). وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ (الآية: 4). وتجد في سورة قاف قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
- وجاء في سورة (فصّلت) من المجموعة الثالثة من قسم المثاني قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
…
(الآية: 9). وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
…
(الآية: 10). فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ (الآية: 12). وتجد هنا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ.
- وجاء في سورة الشورى من المجموعة الرابعة من قسم المثاني قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (الآية: 14). وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ.
- وجاء في سورة الأحقاف من المجموعة الخامسة- التي هي مجموعة قاف نفسها- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى
…
(الآية: 33) وتجد هاهنا قوله تعالى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فسورة قاف التي هي خاتمة قسم المثاني ترتبط بقسمها رباطا وثيقا وتختمه بما تتكامل هي معه ويتكامل معها. ولذلك فقد اشتملت على أنواع من التذكير كان بسببها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصها بالتلاوة في المجامع الكبار
كالعيد والجمع. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد؟ قال: بقاف واقتربت) ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به، وفي رواية لمسلم عن أبي واقد قال سألني عمر رضي الله عنه فذكره (حديث آخر) وروى أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان تنّورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به، وروى أبو داود عن ابنة الحارث بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل يوم جمعة وكان تنّورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة به. والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والله أعلم).
لقد جاءت سورة (قاف) على هذه الشاكلة من قوة التذكير والوعظ كخاتمة لقسمها- قسم المثاني- لترفع الهمم للأخذ به ولتهيّج على التطبيق الرفيع، خاصّة وقد سبقت بسور الحجرات والفتح والقتال، وفيها جميعا تكليفات قتالية وتكليفات شاقة، إلا على الموفّقين.
عند ما تفتّش عن محور لسورة قاف يأتي بعد محور سورة الحجرات من سورة البقرة فإنك تجده في آخر آية من القسم الثالث من سورة البقرة وهي: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الآية: 284) لاحظ صلة هذه الآية بما جاء في سورة (قاف) من خلال هذه المقارنة: جاء في هذه الآية قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
وجاء في الآية التالية لآية المحور قوله تعالى: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (الآية: 285) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ