الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي السورة: [تقديم صاحب الظلال والألوسي للسورة]
قال صاحب الظلال:
(هذه السورة المكية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية. وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان.
كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة، الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.
ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة، نرى فريقا من الناس مصرّا على الضلالة، مكابرا في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات؛ وتواجهه بما تستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم).
وقال الألوسي في تقديمه لسورة الجاثية:
(وتسمى سورة الشريعة، وسورة الدهر، كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها. وهي مكية. قال ابن عطية: بلا خلاف، وذكر الماوردي: إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي، وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في حم هل هي آية مستقلة أو لا؟
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح).
كلمة في سورة الجاثية ومحورها:
نلاحظ من خلال التأمّل في سورة الجاثية أن محورها هو قوله تعالى من سورة البقرة:
الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
تبدأ سورة الجاثية بمقدمة هي: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
ثم تأتي مجموعة تستمر حتى نهاية الآية (11) إذ تستقر على قوله تعالى: هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
ثم تأتي مجموعة ثانية تستمر حتى نهاية الآية (20) إذ تستقر على قوله تعالى:
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
ويمكن أن تعتبر هاتان المجموعتان هما المقطع الأول في السورة، ثم تسير السورة في المناقشة والعرض، وبيان مواقف الكافرين وآرائهم وأحوالهم وتفنيدها، والتذكير باليوم الآخر وما يكون فيه، ويستغرق ذلك مجموعتين: مجموعة تبدأ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ وتستمر حتى نهاية الآية (27). إذ تستقر على قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
ومجموعة تبدأ بقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتستمر حتى تستقر على قوله تعالى. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الآية (37).
وهاتان المجموعتان تشكلان المقطع الثاني في السورة. ونلاحظ التشابه بين الآيتين اللتين استقرت عليهما المجموعتان اللتان تشكلان المقطع الأول، كما نلاحظ التشابه بين الآيتين اللتين استقرت عليهما المجموعتان اللتان تشكلان المقطع الثاني.
ومن رؤيتنا للآيتين اللتين استقرت عليهما مجموعتا المقطع الأول. هذا أي:
القرآن هُدىً، هذا أي: القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ندرك صلة السورة بالآية الأولى من مقدمة سورة البقرة .. الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
…
ومن رؤيتنا لقوله تعالى في المقطع الثاني. أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ..
الآية (23) ندرك صلة السورة بقوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .. وندرك سببا جديدا من أسباب الطبع
على القلوب كما سنرى. ومن ثم قلنا إن سورة الجاثية محورها الآيات السبع الأولى من سورة البقرة.
وهاهنا نستطيع أن نسجّل ملاحظة هي: إن مقدمة سورة البقرة قد فصّلت فيها حتى الآن سور كثيرة: آل عمران .. ويونس .. والحجر .. وطه .. والأنبياء ..
والعنكبوت. والروم. ولقمان .. والسجدة .. والصافات .. وص .. والزمر ..
وغافر .. والشورى .. والجاثية .. ولكنّ كلا من هذه السور فصّل بشكل يكمّل تفصيل الأخرى وإن كان الجميع يفصّلون في المقدمة، وقد يكون تركيز سورة من هذه السور على آية من المقدمة، فتكون هي محورها، وقد تفصّل سورتان في آية واحدة ولكنّ كلا منهما تفصل في حيثية معينة من المحور، وهكذا يتنوّع التفصيل: تجد السورة التي تفصّل في الآية الأولى من مقدمة سورة البقرة كسورة يونس عليه السلام، وتجد السورة التي تفصّل في الآيات الخمسة الأولى من المقدمة كسورة آل عمران. ونجد السورة التي تفصّل في الآيتين التاليتين كالأنبياء من حيثية معينة، وتجد السورة التي تفصل في نفس الآيتين ولكن من حيثية أخرى كسورة ص وسورة غافر، وتجد السورة التي تفصل في الآيات السبع كالجاثية. وهكذا تجد الأنواع المتعددة للتفصيل لمقدمة سورة البقرة أو لبعضها بشكل عجيب.
فإذا انتقلت إلى الآيات التي تأتي بعد المقدمة مباشرة تجد الشئ نفسه. فتجد سورة النساء تفصل في كلمة التقوى، وتجد سورة هود تفصل في كلمة العبادة، وتجد سورة الحج تفصّل في التقوى والعبادة والتوحيد، وتجد السور الثلاث تفصّل في آيتين فقط مما يأتي بعد المقدمة، ثم تجد سورة الأحزاب تفصّل في الآيات السبع التي تأتي بعد المقدمة من سورة البقرة. وهكذا تجد إبداعا في التفصيل والعرض لا يخطر على بال بشر.
فكما أن مرجع الأشياء كلها في هذا الكون- وما أكثرها- إلى حوالي مائة عنصر منها تتركب مجموعة الأشياء التي يبدو أن كلا منها له ذاتيته المستقلة. وكما أن مجموع العناصر مرجعه إلى شيئين اثنين: إلكترونات وبروتونات، تتكاثر في الذرة الواحدة فيحدث عنصر جديد. فإنك تجد في القرآن الشئ نفسه، إذ تجد أن مجموعة سور القرآن تفصّل في معان موجودة في سورة واحدة، ولكنه تفصيل مدهش عجيب يتركب من هذا كله (114) سورة، نستطيع أن نستخرج من هذه المائة والأربع عشرة
سورة ملايين المواضيع الكاملة المتكاملة المبينة لأي قضية من قضايا الوجود وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ حتى إنك لتجد الجواب عن ملايين المسائل في التشريع والسلوك والاعتقاد، كلها في هذا القرآن وهذا بعض ما فيه.
فسورة البقرة تشبه الالكترونات والبروتونات. وسور القرآن تشبه العناصر التي تتألف منها المادة. والمواضيع التي تنبثق عنها تشبه مركبات هذا الكون التي لا تتناهى.
وهذا مظهر من مظاهر الوحدة التي تدل على الواحد.
فكما سجلنا في كتابنا (الله جل جلاله في ظاهرة الوحدة كيف أن في هذا الكون ما يدل على أن صانعه واحد، فإننا نسجل هنا كيف أن القرآن تظهر فيه هذه الوحدة، لكن الكون مخلوق، وهذا القرآن كلام الله ..
فما يصدر عن الله تظهر فيه آثار صفاته وأسمائه، ومن ذلك وحدانيته، ومن خلال التأمل في القرآن الذي هو كلام الله الأزلي القديم، ومن خلال التأمّل في هذا الكون الذي هو خلق الله عز وجل ندرك ظهور الله لخلقه، وندرك بعض عظمة ربنا، وندرك بعض عظمة هذا القرآن، إنّ هذا القرآن أعظم من هذا الكون، لأن الكون خلقه والقرآن كلماته.
نقول هذا بمناسبة الكلام عن سورة الجاثية؛ لأن المجموعتين الأوليين في سورة الجاثية تحدثاننا عن الكون لتستقر كل منهما على ذكر خاصية من خواص هذا القرآن، مما يشير إلى أن الله عز وجل أراد أن يلفت نظرنا إلى الصلة بين آياته في الكون، وآياته في القرآن. فلنر السورة.
***