الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإيمان، والعمل الصالح، وكلها معان داخلة في العبادة والتوحيد والتقوى، وأنذرت المشركين، وذكرت علامة الشرك، وأنها منع الزكاة، والكفر باليوم الآخر، وكل ذلك نوع تفصيل لمحور السورة؛ فالسورة لها مسارها الخاص، وهي في الوقت نفسه تفصيل لمحورها.
***
المجموعة الثانية وتمتد من الآية (9) حتى نهاية الآية (12) وهذه هي:
41/ 9 - 12
التفسير:
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال النسفي: تعليما للأناة، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة لفعل وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي: نظراء وأمثالا وشركاء
وأشباها تعبدونهم من دون الله ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: الخالق للأشياء هو رب العالمين وسيدهم ومربيهم فلا يستحق الربوبية إلا الخالق
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها كما هو مشاهد وَبارَكَ فِيها أي:
وأكثر خيرها قال ابن كثير: أي: جعلها مباركة قابلة للخير والبذار والغراس وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي: أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قال النّسفي: (أي: في تتمة أربعة أيام، فخلق الأرض في يومين، وإيجاد الرواسي وتقدير الأقوات في يومين آخرين، فكان المجموع أربعة أيام). سَواءً أي: استواء لِلسَّائِلِينَ أي: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها؟ قال ابن كثير: (أي: لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ أي: عمد إلى السماء في حالة كونها دخانا فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ أي: لهما جميعا ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قال ابن كثير: أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي: قالتا بل نستجيب لك مطيعين قال الحسن البصري: (لو أبيا عليه أمره لعذّبهما عذابا يجدان ألمه) رواه ابن أبي حاتم
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي: فأحكم خلقهن سبع سماوات في يومين، قال ابن كثير: أي: ففرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين آخرين وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال ابن كثير: أي: ورتّب فورا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي: القريبة من الأرض بِمَصابِيحَ وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض وَحِفْظاً أي:
وحفظناها من المسترقة حفظا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قد عزّ كل شئ فغلبه وقهره الْعَلِيمِ بمواقع الأمور. ولنا في الفوائد كلام حول هذه الآيات وما ورد فيها من خلق السموات والأرض.
وهاهنا ننقل وجهة نظر صاحب الظلال في هذه الآيات وقد جزم هاهنا على غير عادته بأنّ هذه الأيام الستة ليست كأيامنا، والذي دعاه إلى ذلك فيما يبدو ذكر الجبال والأقوات، ولا شك أنّ خلقها كما هي عليه جاء متأخرا عن بدء خلق الأرض، ولكنّ الآية تحتمل أنّه قد أوجد هذا فيها بالقوة ثمّ كان ذلك بالفعل.
قال رحمه الله شارحا هذه الآيات التي مرّت معنا:
(إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين. ثم يعقب عليها قبل بقية قصة الأرض.
يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض. ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ .. وأنتم تكفرون به وتجعلون له أندادا. وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها. فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟!
وما هذه الأيام: الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض. والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي. وقدر فيهما الأقوات، وأحل فيهما البركة. فتمت بهما الأيام الأربعة؟.
إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها. وليست من أيام هذه الأرض.
فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض. وكما للأرض أيام، هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس، فللكواكب الأخرى أيام، وللنجوم أيام. وهي غير أيام الأرض. بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول.
والأيام التي خلقت فيها الأرض أولا، ثم تكونت فيها الجبال، وقدرت فيها الأقوات، هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر، لا نعلمه، ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة.
وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور، حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها. وهذه قد استغرقت- فيما تقول النظريات التي بين أيدينا- نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا!.
وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها. ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية.
فهي في أصلها ليست كذلك. وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل. فنحن لا نحمل القرآن عليها؛ إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقاربا، ووجدنا أنها تصلح تفسيرا للنص القرآني بغير تمحل. فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة؛ لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني.
والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن- والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره- وأنها استغرقت أزمانا طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت. وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور.
ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت. وكانت في أول الأمر صخرية صلبة.
طبقات من الصخر بعضها فوق بعض.
وفي وقت مبكر جدا تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة (2) والأوكسجين
بنسبة (1) ومن اتحادهما ينشأ الماء.
(والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته، وحمله وترسيبه، حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع. وتعاونا على نحر الجبال والنجاد، وملء الوهاد، فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء)(1).
(إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة، وفي تغيير دائم، يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها، ويتبخّر ماء البحر. تبخّره الشمس، فيصعد إلى السماء فيكون سحبا تمطر الماء عذبا، فينزل على الأرض متدفقا، فتكون السيول، وتكون الأنهار، تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها. تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخرا.- أي: تحوله إلى نوع آخر من الصخور- وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله. ويتبدّل وجه الأرض على القرون، ومئات القرون وآلافها. وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل. وتفعل الرياح بوجه الأرض ما يفعل الماء. وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح، بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور. والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك. ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين.
«وتسأل عالم الأرض- العالم الجيولوجي- عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشئ الكثير، ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى.
«يحدثك عن الصخور النارية. تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخرا منصهرا. ثم برد. ويضرب لك منها مثلا بالجرانيت والبازلت. ويأتيك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات. بيضاء وحمراء أو سوداء، ويقول لك: إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي، له كيان بذاته. فهذه الصخور أخلاط.
ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عند ما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان. ثم قام يفعل فيها الماء، هابطا من السماء أو جاريا في الأرض، أو جامدا في الثلج، وقام يفعل الهواء ويفعل الريح ..
وقامت تفعل الشمس. قامت جميعها تغير من هذه الصخور. من طبيعتها ومن
(1) من كتاب (مع الله في السماء) للدكتور أحمد زكي
كيميائها. فولدت منها صخورا غير تلك الصخور، حتى ما يكاد يجمعها- في منظر أو مخبر- شئ.
وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور. إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة، وهي تلك الصخور التي اشتقت بفعل الماء والريح والشمس، أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد. وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى. إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى، أو وهي في سبيل اشتقاق. حملها الماء أو حملتها الريح، ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض.
ويضرب لك الجيولوجي مثلا للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم، ومن حجره تبني القاهرة بيوتها. ويقول لك: إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم، وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء.
ويضرب لك مثلا بالرمل، ويقول لك: إن أكثره أكسيد السيلسيوم، وإنه مشتق كذلك، ومثلا آخر بالطّفل والصلصال، وكلها من أصول سابقة.
وتسأل عن هذه الأصول السابقة التي منها اشتقت تلك الصخور الراسبة، على اختلافها، فتعلم أنها الصخور النارية. بدأت الأرض عند ما انجمد سطحها من بعد انصهار في قديم الأزل، ولا شئ على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري. ثم جاء الماء، وجاءت البحار، وتفاعل الصخر الناري والماء. وشركهما الهواء ..
شركهما غازات متفاعلة، وشركهما رياحا عاصفة، وشركتهما الشمس نارا ونورا.
وتفاعلت كل هذه العوامل جميعا. وفقا لما أودع فيها من طبائع. فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع، إلى صخر نافع. صخر ينفع في بناء المساكن، وصخر ينفع في استخراج المعادن. وأهم من هذا، وأخطر من هذا، أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد، الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه، استخرجت تربة، رسبت على سطح الأرض، مهدت لقدوم الأحياء والخلائق.
«إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا، ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه. ومن أشباه له. وبظهور هذه التربة ظهر النبات، وبظهور النبات ظهر الحيوان.
وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض. ذلك الإنسان .... » (1).
(1) كتاب (مع الله في السماء) ..
هذه الرحلة الطويلة- كما يقدرها العلم الحديث- قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها، والمباركة فيها. وتقدير أقواتها في أربعة أيام ..
من أيام الله .. التي لا نعرف ما هي؟ ما طولها؟ ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتما ..
ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء!.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها .. وكثيرا ما يرد تسمية الجبال «رواسي» وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* أي: إنها هي راسية، وهي ترسي الأرض، وتحفظ توازنها فلا تميد .. ولقد عبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن: إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق، لا تستند إلى شئ .. ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرّة، أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض، أو تسقط في أعماق الفضاء! فليطمئن. فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده! وليطمئن فإن
النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز!.
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها «رواسي» ، وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد. ولعلها- كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال- تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد.
(1) المصدر السابق.
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا.
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها .. وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض، وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها .. فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا ..
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء .. وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع. وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار .. وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات.
وهناك الهواء. ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا
…
«إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر. وتلفّ أكثر الصخر طبقة من ماء. وتلفّ الصخر والماء جميعا طبقة من هواء. وهي طبقة من غاز سميكة. كالبحر، لها أعماق.
ونحن- بني الإنسان، والحيوان، والنبات- نعيش في هذه الأعماق، هانئين بالذي فيها.
«فمن الهواء نستمد أنفاسنا، من أكسجينه. ومن الهواء يبني النبات جسمه، من كربونة، بل من أكسيد كربونة، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون.
يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا. ونحن نأكل النبات. ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات. ومن كليهما نبني أجسامنا. بقي من غازات الهواء النتروجين- أي الأزوت- فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا. وبقي بخار الماء، وهذا لترطيب الهواء. وبقيت طائفة من غازات أخرى، توجد فيه بمقادير قليلة هي- في غير ترتيب- الأرجون والهليوم والنيون، وغيرها. ثم الإدروجين. وهذه تخلفت- على الأكثر- في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى» (1).
(1) المصدر السابق.
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا- والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون- كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء. وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو؟ إنه مركب من الكربون والإيدروجين والأكسجين. والماء علمنا تركيبه من الإدروجين والأكسجين .. وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة .. إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعة فيها ..
فهذا كله يشير إلى شئ من البركة وشئ من تقدير الأقوات .. في أربعة أيام .. فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة .. هي أيام الله، التي لا يعلم مقدارها إلا الله.
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. إن هناك اعتقادا أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم. وهذا السديم غاز .. دخان.
«والسدم- من نيرة ومعتمة- ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار. ومن هذين تكونت بالتكثّف النجوم، وبقيت لها بقية. ومن هذه البقية كانت السدم. ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار، يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تحرص منه بالجاذبية إليها. فهي تكنس السماء منه كنسا.
ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولا» (1).
وهذا الكلام قد يكون صحيحا لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. وإلى أن خلق الله السموات تم في زمن طويل. في يومين من أيام الله.
ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ.
(1) المصدر السابق.
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته. فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرها في أغلب الأحيان. إنه خاضع حتما لهذا الناموس، لا يملك أن يخرج عنه، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره. ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الأرض والسماء. إنما يحاول أن يتفلّت، وينحرف عن المجرى الهين اللين، فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه- وقد تحطّمه وتسحقه- فيستسلم خاضعا غير طائع. إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإرادتهم ورغباتهم واتجاهاتهم.
تصطلح كلها مع النواميس الكلية، فتأتي طائعة، وتسير هينة لينة، مع عجلة الكون الهائلة، متجهة إلى ربها مع الموكب، متصلة بكل ما فيه من قوى .. وحينئذ تصنع الأعاجيب، وتأتي بالخوارق، لأنها مصطلحة مع الناموس، مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله طائِعِينَ.
إننا نخضع كرها. فليتنا نخضع طوعا. ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء. في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين.
إننا نأتي أحيانا حركات مضحكة .. عجلة القدر تدور بطريقتها. وبسرعتها.
ولوجهتها. وتدير الكون كله معها. وفق سنن ثابتة .. ونأتي نحن فنريد أن نسرع. أو أن نبطئ. نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل. نحن بما يطرأ على نفوسنا- حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خطر السير- من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة .. ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض. ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم.
ونصطدم هنا وهناك ونتحطم. والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها.
وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى. فأما حين تؤمن قلوبنا حقا، وتستسلم لله حقا، ونتصل بروح الوجود حقا. فإننا- حينئذ- نعرف دورنا على حقيقته؛ وننسق بين خطانا وخطوات القدر؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة، في المدى المناسب. نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود. ونصنع أعمالا عظيمة فعلا. دون أن يدركنا الغرور. لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة. ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية. إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى.