الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
23 -
كتاب الطلاق
باب في الإيلاء، واعتزال النساء
، وتخييرهن، وقوله تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ (4)} [التحريم: 4]
حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سماك أبي زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب فقال عمر: فقلت: لأعلمن ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة فقُلتُ: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب؟ عليك بعيبتك قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر، فناديت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي فلم يقل شيئا، ثم قلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا، ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن ارقه، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق قال: فابتدرت عيناي قال: {ما يبكيك؟ يا ابن الخطاب} قلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى،
وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك فقال:{يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا} ؟ قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت، وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت، وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية آية التخيير {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ (5)} [التحريم: 5] {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4] وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال: {لا} . قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد، والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:{نعم إن شئت} ، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر، فضحك وكان من أحسن الناس ثغرا، ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت، فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده فقلت: يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين قال: {إن الشهر يكون تسعا وعشرين} فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التخيير 2/ 1105.
ــ
الحديث فيه خلافان:
الأول: "فعليك بعيبتك" تريد ابنته، قيل: العيبة الابنة قال الإمام المازري: "أي بخاصتك وموضع سرك، ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الأنصار كرشي وعيبتي" قال ابن
............................................................................................
ــ
الأنباري: يعني "كرشي أصحابي وجماعتي الذين اعتمد عليهم، وأصل الكرش في اللغة: الجماعة"، وجعل الأنصار عيبته: خصوصيته إياهم؛ لأنه يطلعهم على أسراره، قال غيره: فمعنى "عيبتي" خاصتي وموضع سري، قال أهل اللغة: والعيبة في كلام العرب معناها: ما يجعل فيه الرجل أفضل ثيابه، وحر متاعه وأنفسه عنده" (1).
قال القاضي عياض: " كذا رواية العذري والفارسي وكافة الرواة، وهو الصواب على ما تقدم، ورواه بعضهم عن السجزي: بغيبتك وليس بشيء، وعند ابن ماهان: بنفسك"(2).
والعيبة موضع سر الرجل قال ابن سلام: "عيبة الرجل موضع سره والذين يأتمنهم على أمره، ومنه الحديث: كانت خزاعة عيبة النبي مؤمنهم وكافرهم. وذلك لحلف كان بينهم في الجاهلية.
[وقال أيضاً]: ولا أرى عيبة الثياب إلا مأخوذة من هذا لأنه إنما يضع الرجل فيها خير ثيابه وخير متاعه وأنفسه عنده. ومنه حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ حين دخل على عائشة فقال: أقد تبلغ من شأنك أن تؤذي النبي؟ فقالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب! عليك بِعَيْبَتِكَ فأتى حفصة ـ رضي الله عنه ـ" (3).
وقال ابن الأثير عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ[الأنْصَار كَرِشي وعَيْبَتي](4): أي خاصَّتي ومَوضعُ سِرَّي. والعرب تَكْنِي عن القُلوب والصُّدور بالعِياب لأنها مُسْتَوْدَع السَّرائر كما أن العِيَابَ مُسْتَوْدعُ الثَّياب. والعَيْبة معروفة ومنه حديث عائشة [في إيلاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نِسائه قالت لعُمَر لمّا لامَها: مالي ولَكَ يا ابن الخطَّاب عليك بعَيْبَتك] أي
(1) المعلم بفوائد مسلم 2/ 200، وإكمال المعلم بفوائد مسلم 5/ 35.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
ينظرغريب الحديث: (تأليف: أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي)، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1396هـ، 1/ 138.
(4)
صحيح البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)، الحديث رقم 3590، 1383.
............................................................................................
ــ
اشْتَغِل بأهْلِك ودَعْني (1).
أما النفس فيراد بها الثوب وهو أحد أوجه معانيه، ويقال:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر]، أي قصر، فإن تقصيرها طهر، وقيل:"نفسك فطهر" وقال ابنُ قتيبةَ في مشكلِ القرآن: أَي نَفْسَكَ فَطَهِّرْهَا منَ الذُّنُوبِ، والعَرَبُ تَكْنِي بالثِّيَابِ عن النفْس لاشتمالها عليها، قالت لَيْلَى وذَكَرَت إبلا:
رَمَوْهَا بِأَثْوَاب خِفَافِ فَلَا تَرَى
…
لها شبهاً إلا النعام المنفرا (2)
وقال:
فَسُلِّي ثِيَابِ عَنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ (3).
فيكون المعنى عليك بخاصة من تكون له سترأ كالثوب، وهذه الرواية على المعنى، والله أعلم.
وممن رواه كما وقع لمسلم من رواية ابن سفيان أبو يعلى (4) والبزار (5).
الثاني: قال القاضي عياض: "قوله: في حديث تخيير النبي عليه السلام نساءه فجلست فإذا رسول الله عليه إزاره، كذا لابن ماهان، وكذا سمعناه على أبي بحر، وسمعناه من القاضي أبي علي، والخشني: فأدنى عليه إزاره، وهي رواية الجلودي، والأول الصواب بدليل مقصد الحديث، وأن عمر إنما أراد أن يصف الهيئة التي وجده عليها"(6).
فإذا عليه أزاره هي رواية ابن ماهان، وفأدنى عليه أزاره هي رواية
(1) ينظرالنهاية في غريب الحديث والأثر3/ 617.
(2)
ديوان ليلى الأخيلية ص29، وينظر المعاني الكبير لابن قتيبة الدينوري ص115، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص107، وغيرهما.
(3)
ينظر لسان العرب 1/ 243. تاج العروس من جواهر القاموس 1/ 330. والبيت لامرئ القيس ومطلعه:" وتكُ قد ساءتكِ مني خَليقَةٌ " ديوان امرؤ القيس ص2.
(4)
مسند أبي يعلى: مسند عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، الحديث رقم 164، 1/ 149.
(5)
مسند البزار: مسند عمر بن الخطاب، ومما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن عمر، الحديث رقم 195، 1/ 149.
(6)
مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1/ 26.
............................................................................................
ــ
الجلودي، وهي موافقة لرواية ابن سفيان. إذا هذه هي إذا الفجائية، وتختص بالأسماء، وهنا اسمها محذوف، والتقدير فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أزاره. أي تفاجأ عمر لهيئته التي كان عليها، ويدل على ذلك جوابه بعد بكائه: "ومالي لا ابكي؟ وهذا الحصير قد اثر في جنبك
…
".
وأما فأدنى عليه أزاره، فهو مأخوذ من الدنو أي القرب يقال:"أدنيت الستر أرضيته"(1) أي جعل أزاره اقرب إلى الأرض.
فيكون كلا الروايتين صواب، الأولى تفاجأ من وصفه صلى الله عليه وسلم والأخرى، اخبر عن حاله في إسدال أزاره، والله اعلم.
ولا تعارض بين الروايتين لان الإسدال بعد المفاجأة: وهذا ما رواه أبو عوانة في مستخرجه (2).
وممن رواه كرواية ابن ماهان، أبو يعلى (3)، والبيهقي (4)، وكلهم رووا هذا الحديث بسند واحد. ووقع لأبي يعلى خطأ في مسنده فقال عثمان بن يونس، والصواب عمر بن يونس.
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 201.
(2)
مستخرج أبي عوانة: مبتدأ كتاب الطلاق، باب الخبر المبين ان الرجل إذا قال لامرأته: اختاري، الحديث رقم 3703 ، /
(3)
مسند أبي يعلى: مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحديث رقم 164، 1/ 149.
(4)
سنن البيهقي الكبرى: كتاب النكاح، باب ما أمره الله تعالى به من اختيار الآخرة على الأولى، ولا يمد عينيه إلى زهرة الدنيا، قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]، الحديث رقم 13084، 7/ 46. شعب الإيمان: الرابع عشر من شعب الإيمان وهو باب في حب النبي صلى الله عليه وسلم، فصل في زهد النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على شدائد الدنيا
…
، الحديث رقم 1449، 2/ 166.