الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
علاقة صحيح مسلم بصحيح البخاري، والترجيح بينهما
تأتي علاقة صحيح مسلم بصحيح البخاري من علاقة الإمامين ببعضهما، فهذا الخطيب البغدادي يقول:"ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم، وأدام الاختلاف إليه"(1).
وقال الذهبي: " وكان الحافظ أبو عبد الله بن الاخرم أعرف بذلك، فأخبر عن الوحشة الاخيرة، وسمعته يقول: كان مسلم بن الحجاج يظهر القول باللفظ، ولا يكتمه، فلما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم الاختلاف إليه، فلما وقع بين البخاري والذهلي ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه، حتى هجر، وسافر من نيسابور، قال: فقطعه أكثر الناس غير مسلم"(2).
وذكر الذهبي قول ابن عساكر في الأطراف ـ بعد أن ذكر صحيح البخاري ـ ثم سلك سبيله مسلم بن الحجاج فأخذ في تخريج كتابه وتأليفه وترتيبه (3).
وقال الخطيب البغدادي: "حدثني عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال:
سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء" (4).
وقال الدارقطني أيضاً: "إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل فيه مستخرجاً، وزاد فيه أحاديث"(5).
وكان أبو علي الحسين بن علي النيسابوري يقول: "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث"(6).
وقال أحمد بن سلمة: "رأيت أبا زرعة، وأبا حاتم يقدمان مسلماً في معرفة
(1) تاريخ بغداد 13/ 103.
(2)
سير أعلام النبلاء 12/ 572.
(3)
المصدر نفسه12/ 572.
(4)
تاريخ بغداد 13/ 103.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
تاريخ مدينة دمشق 58/ 92.
الصحيح على مشايخ عصرهما" (1).
وقال ابن كثير ذهبت المغاربة، "وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري"(2).
أما القول عن صحيح مسلم مستخرجاً على صحيح البخاري، فإنه لا ينطبق لأمرين:
1 -
من شرط المستخرجات أن يأخذ صاحب المستخرج كتاب شيخه، فيعمد إلى تخريج أحاديثه من غير طريق عن شيخ شيخه ليساويه في علو الإسناد، وهذا إن انطبق، فإنه ينطبق على أحاديث قليلة منه، ولا يراد به الكل.
2 -
إن مسلماً بن الحجاج سمى كتابه المسند الصحيح، ولو كان مستخرجاً لسمّاه مستخرجاً، وخلاصة القول هذا القليل إنما جاء مطابقاً لا إستخراجاً.
وأما قول أبي علي النيسابوري "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم"، فظاهره يشعر أن غيره ليس أصح منه، قال الذهبي:"لعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري"(3)، واستبعد الحافظ ابن حجر هذا القول فقال:"إن عبارة أبي علي هذه تقتضي أن صحيح مسلم في أعلى درجات الصحيح، وأنه لا يفوقه كتاب أما أن يساويه كتاب كصحيح البخاري، فذلك لا تنفيه هذه العبارة"(4).
وقال ابن الصلاح: "إن ذلك محمول على سرد الصحيح فيه دون أن يمزج بمثل ما في صحيح البخاري مما ليس على شرطه، ولا يحمل على الأصحية"(5).
وأما قول أحمد بن سلمة: "رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلماً في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما"، فهذا يحمل على بعد وفاة البخاري، فمسلم على جلالة قدره، فإنه يسأل البخاري عن علل الحديث قال أحمد بن حمدون: "سمعت مسلماً بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقبل ما بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في
(1) سير أعلام النبلاء 12/ 565.
(2)
البداية والنهاية 11/ 33.
(3)
تذكرة الحفاظ 2/ 589.
(4)
هدي الساري 1/ 23.
(5)
النكت على ابن الصلاح1/ 282.
علله، حدثك محمد بن سلام، حدثنا محمد بن يزيد الحراني قال: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة
…
ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكفارة في المجلس "إذا قام من مجلسه فقال سبحانك ربنا وبحمك، فهو كفارة له"، قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل قال: حدثنا وهيب، قال: حدثني سهيل عن عون بن عبد الله بن علية، وعثمان، وصالح بنو أبي صالح "وهو من أهل المدينة"(1).
ومن المغاربة من شارك أبا علي النيسابوري في تفضيل صحيح مسلم على البخاري، وهو أبو محمد بن حزم، وله قول في ذلك ذكره الإمام الصنعاني قال: ذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري؛ لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث المجرد.
قال ابن حجر: ما فضله المغاربة ليس راجعاً إلى الأصحية بل هو لأمور أحدهما: ما تقدم عن ابن حزم، الثاني: أن البخاري كان يرى جواز الرواية
…
بالمعنى، وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران] هما [:
1 -
إن البخاري صنف كتابه في طول رحلته فقد روينا عنه أنه قال: "رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر، ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان"، فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه، فلا يسوق ألفاظه برمتها، بل يتصرف فيه، ويسوقه بمعناه، ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة شيوخه، وكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق.
2 -
إن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديث فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورده كل قطعة منه في الباب الذي استدل به على ذلك
(1) طبقات الحنابلة 1/ 273، وسير أعلام النبلاء 12/ 564.
الذي استنبط منه؛ لأنه لو ساقه في المواضع كلها سرداً لعطف بعضها على بعض في موضع واحد. انتهى.
[قال الصنعاني]: قلت: لو يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع، فإن الدعوى بأن البخاري أصح الكتابين، وهذا التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى المدعي إلا بخلاف المدعى على أن قول القائل:"ما تحت أديم السماء" أعَلمَ من فلان يفيد عرفاً أنه أعلم الناس، وأنه لا يساويه أحد في ذلك، وأما في اللغة فيحتمل توجيه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا نفي المساوي فيه والحقيقة العرفية مقدمة، سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله ما تحت أديم السماء (1).
(1) توضيح الأفكار 1/ 75. وللتوسع في طلب هذه الخصوصية، ينظر هدي الساري 1/ 21 وما بعدها.