الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع
أثر اختلاف النسخ
ففي المؤلف الواحد تختلف النسخ من تلميذ إلى إخر؛ بسبب السماع في المجالس المتتابعة، فذاك يسمع الكلام من مؤلفه مباشرة، وهو قريب منه، فيكتب نص ما سمع، وآخر بعيد منه لكثرة الحاضرين لهذا المجلس، فيسمع فيختلط عليه سمعه، فيصحف، وهذا سبب من أسباب الإختلاف. ويسمى تصحيف السماع.
وقد يقع تصحيف من نوع آخر بسبب النساخين للكتاب، فيحصل تغيير بالشكل أو النقط، وتلميذ إخر يعتمد على حفظه، فيدون ما سمعه في غير مكان مجلس السماع، ولتفاوت قدرات الحفظ من راو لآخر، فقد يحصل له أن لا يروي النص باللفظ بل بالمعنى، فيكون التغيير حاصل في النسخ، ومنه يكون مخل بالمعنى إخلالاً فاحشاً، أو بسيطاً له وجه في اللغة، فيكون مقبولاً نوعاً ما، وتلميذ آخر لم يحضر مجلس السماع، فيفوته من ذلك الكتاب ما يفوته لأسباب رحلة، أو مرض، وغير ذلك، فيستدركه في مجلس آخر، أو يجيزه به شيخه، أو يرويه وجادة
…
الخ.
وما كتاب مسلم إلا واحد من هذه الكتب التي وقع فيها الاختلاف، لذلك سنعمد إلى إثبات الآتي:
1 -
إثبات أن الإمام مسلماً حدث بالصحيح غير مرة.
2 -
إثبات تفاوت الحفظ عند التلاميذ.
3 -
إثبات الرواية بالمعنى المقاربة للشروط.
إثبات أن الإمام مسلماً حدث بالصحيح غير مرة:
قال ابن الصلاح: اعلم أن لإبراهيم بن سفيان في الكتاب فائتا لم يسمعه من مسلم يقال فيه: أخبرنا إبراهيم عن مسلم، ولا يقال فيه:"قال: أخبرنا"، أو "حدثنا مسلم"، وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة، وإما بطريق الوجادة، وقد غفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك، وتحقيقه في فهارسهم وبرنامجاتهم، وفي تسميعاتهم
وإجازاتهم، وغيرها بل يقولون في جميع الكتاب: أخبرنا إبراهيم، قال: اخبرنا مسلم، وهذا الفوت في ثلاثة مواضع محققة في أصول معتمدة.
فأولها: في كتاب الحج، في باب الحلق والتقصير حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(رحم الله المحلقين) برواية ابن نمير، فشاهدت عنده في أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي بخطه ما صورته، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم قال: حدثنا ابن نمير، حدثنا ابي، حدثنا عبيد الله بن عمر
…
الحديث.
الفائت الثاني لإبراهيم: أوله أول الوصايا قول مسلم: حدثنا أبو خيثمة زهير ابن حرب، ومحمد بن المثنى (واللفظ لمحمد بن المثنى) في حديث ابن عمر:"ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه
…
" إلى قوله في آخر حديث رواه في قصة حويصة ومحيصة في القسامة: حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا بشر بن عمر قال: سمعت مالك بن أنس الحديث، وهو مقدار عشرة أوراق، ففي الأصل المأخوذ عن الجلودي، والأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر العبدري ذكر انتهاء هذا الفوات عند أول هذا الحديث، وعود قول إبراهيم: حدثنا مسلم.
الفائت الثالث: أوله قول مسلم في أحاديث الإمارة والخلافة: حدثني زهير بن حرب، حدثنا شبابة، حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الإمام جنة)، ويمتد إلى قوله في كتاب الصيد والذبائح: حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا أبو
…
عبد الله حماد بن خالد الخياط حديث أبي ثعلبة الخشني:"إذا رميت بسهمك
…
"، فمن أول هذا الحديث عاد قول إبراهيم: حدثنا مسلم.
وهذا الفوت أكبرهما، وهو نحو ثماني عشرة ورقة، وفي أوله بخط الحافظ الكبير أبي حازم العبدوي النيسابوري، وكان يروي عن محمد بن يزيد العدل، عن إبراهيم ما صورته من هنا يقول إبراهيم: قال مسلم (1).
قال الحافظ ابن حجر: وأخبرنا بهذه الأفوات أبو العباس أحمد بن أبي بكر الحسباني كتابة من دمشق، أنبأنا الفخر عثمان بن محمد التوزري في كتابه من
(1) صيانة صحيح مسلم ص111.
مصر، أنبأنا أبو بكر محمد بن يوسف بن مسدي إجازة، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضي قال: قرأت جميع صحيح مسلم على أبي عمر أحمد بن
…
عبد الله بن جابر الأزدي، بسماعه له على أبي محمد عبد الله بن محمد الباجي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الباجي، حدثنا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان، حدثنا أبو بكر أحمد بن يحيى الأشقر، أنبأنا أحمد بن علي بن الحسين بن المغيرة القلانسي، أنبأنا مسلم لجميع الصحيح قراءة عليه، وأنا أسمع من أوله إلى حديث الإفك في أواخر الكتاب (1).
قال الدكتور عبد الله بن محمد حسن: ولم أقف على من تعرَّض لهذه الفوائت بالدراسة، وبيان أنَّها لا تؤثِّر في صحة واتِّصال هذه الأحاديث سوى ما ذكره الدكتور الحسين شواط حيث قال:"يبعد أن يكون هذا الفائت قد بقي على ابن سفيان إلى حين وفاة مسلم"، وذلك لأمور، منها:
أ - توفر دواعي تلافي ذلك الفوت وسماعه من مسلم، وذلك لأنَّ الفراغ من سماع الكتاب قد تمَّ سنة (257هـ) أي قبل وفاة مسلم (ت261هـ) بحوالي خمس سنوات، فكيف يغفل عن ذلك كلَّ هذه المدَّة مع وجودهما في بلد واحد.
ب - ما نصَّت عليه المصادر ونوَّهت به من كثرة ملازمة ابن سفيان لشيخه مسلم، ممَّا يجعل الفرصة سانحة بصفة أكيدة لسماع ما يفوته منه.
جـ - النص في بعض النسخ على عدم حضور ابن سفيان مجلس السماع لا يمنع سماعه في مجلس آخر بعده. وعلى فرض تسليم بقاء هذا الفوت فعلاً؛ فإنَّ احتمال روايته بطريق الوجادة ضعيف جدًّا؛ لأنَّ بعض النسخ قد نصَّت على أنَّه كان إجازة كما ذكر ابن الصلاح، وما ذكره - حفظه الله - فيه وجاهة، لكن لا تعدو كونها أموراً نظريةً قائمة على الاجتهاد الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولا يمكن أن تتأكّد إلَاّ من خلال الجانب التطبيقي العملي، وهذا ما توصلتُ إليه حيث تتبَّعتُ روايات العلماء المغاربة لصحيح مسلم للوقوف على مَن روى أحاديث مسلم من طريق القلانسي لمعرفة كيفية روايته لأحاديث الفوائت حتى
(1) المعجم المفهرس 1/ 29.
طُبع مؤخّراً كتاب حجَّة الوداع للإمام ابن حزم الأندلسي، فوجدته روى جميع أحاديث مسلم التي ضمَّنها فيه من طريق القلانسي، عن مسلم. وعددُها سبعون ومائة حديث، قال فيها القلانسي:"حدَّثنا مسلم"، وكان من بينها ثلاثة عشر حديثاً من أحاديث الفوائت في رواية ابن سفيان، وهذه قائمة بها:
الرقم المتسلسل
…
رقم الحديث في كتاب حجَّة الوداع
…
رقم الحديث في صحيح مسلم بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي
1 -
131
…
1335
2 -
134
…
1334
3 -
159
…
1305
4 -
174
…
1308
5 -
176
…
1316
6 -
185
…
1306
7 -
186
…
1307
8 -
195
…
1315
9 -
199
…
1309
10 -
201
…
1313
11 -
203
…
1314
12 -
324
…
1319
13 -
335
…
1211
فثبت من هذا أنَّ أحاديث الفوائت في رواية ابن سفيان ـ لو سُلِّم بقاؤها ـ قد اتَّصلت في رواية القلانسي، فاندفع بذلك النقد الذي يمكن أن يُوجَّه إليها، والله أعلم (1).
(1) إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، بقلم الدكتور عبد الله بن محمد حسن، بحث على شبكة المنهاج الإسلامية، تاريخ الإضافة: 14/ 3/2008.
إثبات تفاوت الحفظ عند التلاميذ:
هذا الموضوع هو أقرب ما يكون في علم الطبقات، وأقصد هنا طبقات الرواة عن الشيخ الواحد، وهو بدوره يرجع إلى كون الرواة ثقات أو ضعفاء، ولما كان رواة الصحيح ثقات دون خلاف كان تفاوتهم راجع إلى أمرين:
طول ملازمة وشدة ضبط، وعكسه.
مما يجعل التفاضل بين الرواة ممكناً، إلا أننا وجدنا من خلال دراستنا أن الاختلاف بين الروايتين راجع إلى كليهما، وتبين عدد أخطاء ابن ماهان في الروايات المتعلقة بالسند هي (28)، أما ابن سفيان فالعدد (3).
أما المعاني فغالباً كانوا متقاربين حيث استطعنا وبحمد الله التوفيق ودفع الخلاف على الأكثر، وأما القليل: فكان لكل منهما نصيب فالاختلاف في المتن (8) لابن ماهان و (1) لابن سفيان، وهذا يرشدنا إلى تقاربهم في المنزلة ولله الحمد والمنة.
وقد يرجع التفاوت أيضاً إلى قلة الضبط أو الوهم (1) أو الخطأ (2) وكثرته بين الرواة، وهنا بالمقارنة وجدنا أن الوهم أو الخطأ قليل جداً إذا ما قورن بعدد أحاديث
…
الصحيح، فكان لمجموع الاختلافات (117)، وبعد أن انتهينا من هذه الدراسة،
(1) الوهم لغة: وهم في الحساب: غلط فيه، والوهم من خطرات القلب، أو مرجوح طرفَيْ المتردد فيه، والجمع أوهام ووُهُوم ووُهْم. القاموس المحيط:(تأليف الفيروز آبادي محمد بن يعقوب بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم ت729هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت، د. ط، د. ت.
…
1/ 1507 مادة (وهم) وينظر معجم مصطلحات الحديث النبوي: (تأليف: أ. د. رشيد عبد الرحمن العبيدي)، ديوان الوقف السني، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، العراق ـ بغداد، 1427هـ ـ 2006م، وإصطلاحاً لم أجد له تعريفاً عند الأقدمين، وعرًّفه شيخنا الدكتور محمد إبراهيم خليل السامرائي: الوهم: هو الخطأ الذي يعتري المحدث، فيجانب وجه الصواب في الرواية ظناً منه أنه صواب، أو هو خلل في ضبط الراوي للأخبار. اختلاف الإجتهاد في بعض الرواة بين الإمامين البخاري وأبي حاتم الرازي: مجلة أبحاث اليرموك المجلد 19، العدد 2ب، حزيران، 2003، ص 965.
(2)
الخطأ: نقيض الصواب، الصحاح في اللغة:(الجوهري إسماعيل بن حماد ت393هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، ط4، 1990م. 1/ 177، والخَطَأُ: ما لم يُتَعَمَّدْ القاموس المحيط 1/ 7، وعرفه الجرجاني: هو ما ليس للإنسان فيه قصد، التعريفات:(تأليف: الجرجاني علي بن محمد علي ت816هـ)، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1،1405، 1/ 134.
ووفقنا بين الروايتين تبين الخطأ والوهم هو (36) حديثاً لابن ماهان و (4) لابن سفيان.
إثبات الرواية بالمعنى المقاربة للشروط:
ذكر الخطيب البغدادي قوله صلى الله عليه وسلم: "فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، وإلى من هو أقرب منه"(1)، وكأنه قال: إذا كان المبلغ أوعى من السامع وافقه، وكان السامع غير فقيه، ولا ممن يعرف المعنى وجب عليه تأدية اللفظ ليستنبط معناه العالم الفقيه.
ويقول الخطيب أيضاً: "ويجوز للعالم بمواقع الخطاب، ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين أهل العلم خلاف".
وأضيف شرطاً آخر: أن يكون عالماً بالعربية (2).
وقال البعض الآخر: أن لا يكون في الحلال والحرام (3).
ومن هنا وجدنا أن كثيراً من الألفاظ التي كان فيها الخلاف بين الروايتين هي من قبيل المعاني المحتملة التي حلت محل الأخرى إلا ما ندر، أو القليل الذي يؤدي إلى التوفيق وتوحيد المعاني، والله أعلم.
(1) الكفاية في علم الرواية: (تأليف: الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ت)، تحقيق: أبو عبد الله السورقي ، إبراهيم حمدي المدنيفي، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ص198، 199.
(2)
ينظر فتح المغيث شرح ألفية الحديث: (تأليف: السخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ت902هـ)، دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، 1403هـ، 2/ 241و242.
(3)
ينظر الكفاية في علم الرواية، ص200.