الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا،
وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير، فأعطي حكمه،
ــ
[البناية]
شراب» بواو العطف، ولا شك أن المعطوف غير المعطوف عليه، فيكون ما نحن فيه من الشراب غير الخمر لا يكون حراما إلا بالسكر.
م: (ولأن المفسد هو القدح المسكر، وهو حرام عندنا) ش: أي المفسد للعقل هو القدح، وهو حرام عندنا فيما سوى الأشربة المحرمة لا ما قبله.
فإن قلت: القدح الأخير ليس بمسكر على انفراد، بل مما تقدم ينبغي أن يحرم ما تقدم أيضا؟.
قلت: أجيب: بأن الحكم يضاف إلى العلة معنى وحكما، وفيه نظر؛ لأن الإضافة إلى العلة اسما، ومعنى، حكما أولى، والمجموع بهذه الصفة، والأولى أن يقال: الحرام هو المسكر، وإطلاقه على ما تقدم مجاز، وعلى القدح الأخير حقيقة وهو مراد، فلا يكون المجاز مرادا.
وقد قال تاج الشريعة: السكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام، وهو ما يتصل به من التخمة، فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه، وهو به حلال، وهو ما يتخم، وهو الأكل فوق الشبع حرام، ثم المحرم منهما وهو المتخم وإن كان لا يكون ذلك متخما إلا باعتبار ما تقدمه من الأكلات. وكذلك في الشراب.
قد قال أبو يوسف: مثل ذلك: كمثل دم في ثوب ما دام قليلا فلا بأس بالصلاة فيه، فإذا كثر لم يحل، ومثل رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس بذلك، فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك، ولا ينبغي، وكذلك النبيذ لا بأس أن يشربه على طعامه، ولا خير في السكر منه؛ لأنه إسراف، وأظهر من ذلك أن الضمان من ذلك أن الضمان يضاف إلى واضع المن الأخير في السفينة وإن لم يحصل الفرق بدون ما تقدم من الأمناء، وهذا لأنه لم يوجد التلف حكما بما تقدم من كلامنا، وإنما وجد ذلك، بفعل فاعل مختار، فأضيف الفرق لولي المن الأخير، فكذا هنا أضيف السكر على القدح الأخير الذي يحصل به السكر حقيقة لا ما تقدم من الأقداح.
[الحكمة من تحريم الخمر]
م: (وإنما يحرم القليل منه) ش: أي من الخمر، هذا جواب سؤال مقدر يمكن تقديره على هذا الوجه، وهو أن يقال: لما كان المفسد هو الأخير دون ما تقدم وجب أن يكون في الخمر كذلك، ويجوز أن يكون جوابا عن قولهم؛ ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره؟.
ووجه الجواب عن الأول: أن القياس ذلك، ولكن تركناه م:(لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير) ش: أي لأن الخمر لرقتها ولطافتها تدعو إلى الكثير م: (فأعطي حكمه) ش: أي فأعطي
والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة. والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه،
ــ
[البناية]
القليل حكم الكثير، والمثلث ليس كذلك لغلظه، وهو معنى قوله: م: (والمثلث لغلظه لا يدعو) ش: أي قليله لكثيره م: (وهو في نفسه غذاء) ش: أي والمثلث في نفسه غذاء م: (فبقي على الإباحة) ش: لأن الحاصل الإباحة وجه الجواب عن الثاني بطريق الفرق وهو واضح.
م: (والحديث الأول) ش: يعني قوله: «كل مسكر خمر» م: (غير ثابت على ما بيناه) ش: أي في أول الكتاب من طعن يحيى بن معين، وقد تقدم الكلام فيه مستوفى، فما المراد تشبيه المسكر بالخمر في حق الحكم وهو الحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث مبينا للأحكام لا واضعا للأسامي والمسكر وهو المسكر، وهو القدح الأخير كالخمر في أنه يجب الحد بشربه. وعن إبراهيم النخعي قالوا: ما يرويه الناس عنه صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» خطأ، وزادوا فيه الميم، والصحيح من الرواية:" كل سكر حرام " وكذا ما يرويه الناس عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأن الخلاف في ذلك مشهور بين الصحابة، ولم يحتج بهما أحد؛ ولأن الأخبار لما تعارضت يتمسك بالقياس، وهو شاهد؛ لأن في قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، بين الحكمة في تحريم الخمر، وهو: الصد عن ذكر الله تعالى وإيراث العداوة، والبغضاء، وهذه المعاني لا تحصل بشرب القليل.
ولو خلينا ظاهر الآية لقلنا بأن القليل من الخمر لا يحرم أيضا، لكن تركناه في قليل الخمر بالإجماع فيما عداه، فبقي على ظاهر الآية، لأنه قلما لا يورث العداوة والبغضاء ولا الصد عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعن الصلاة.
وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا أبو إسحاق الشعبي، عن عمر بن ميمون الأودي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن للمسلمين جزورا لطعامهم، وإن العتق منها، لأن عمر قال: وإنه لا يقطع لحوم هذه الإبل في بطونها إلا النبيذ الشديد. وروى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى عمر رضي الله عنه فيه: أنه كان في سفر فأتي بنبيذ الطائف له عزام، فذكر شدة لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب.
وروى الطحاوي أيضا: حدثنا أبو أمية قال: حدثنا عبد السلام عن ليث عن عبد الملك بن أخي القعقاع بن ثور «عن ابن عمر، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فأومأ إلى فيه فقطب فرده، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو فرد الشراب، ثم دعا بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: إذا علمت منه الأشربة عليكم فأكثروا متونها بالماء» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
وأخرجه النسائي أيضا عن عبد الملك بن نافع، ثم قال: وعبد الملك بن نافع غير مشهور لا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف هذا. ثم أخرج عن ابن عمر حديث المسكر من غير وجه. وقال البخاري: لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع: هو مجهول، وقال البيهقي: هذا حديث يعرف لعبد الملك بن نافع، وهو رجل مجهول، واختلفوا في اسمه، واسم أبيه، فقيل: هكذا، وقيل: عبد الملك بن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن أبي القعقاع.
قلت: عبد الملك بن نافع هذا ما ذكره ابن حبان في " الثقات " من التابعين، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو الأحوص عن إسحاق عن عمر بن ميمون، قال: قال عمر رضي الله عنه: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا، فمن رأى من شرابه شيئا فليمزجه بالماء.
وقال أيضا: حدثنا وكيع حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، حدثني عتبة بن فرقد، قال: قدمت على عمر فدعى بشراب نبيذ قد كان يصير خلا، فقال: اشرب فأخذته فشربته، فما كنت أن أسيغه ثم أخذه فشربه، ثم قال: يا عتبة إنا نشرب هذا النبيذ الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا.
وقال عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كتب لنوح {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52]، وفيه: إن الملك قال له: ويطبخه حتى يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث، قال ابن سيرين: فوافق ذلك كتاب عمر رضي الله عنه.
وروي عن معمر عن عاصم عن الشعبي قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى عمار:
أما بعد: فإذا جاءنا أشربة من الشام كأنها طلاء الإبل قد طبخ حتى ذهب ثلثاه الذي فيه خبث الشيطان وريح جنوبه، وبقي ثلثه فأومر من قبلك أن يصطنعوه. ما خرج أيضا عن ابن الليمي عن منصور عن إبراهيم، عن سويد بن غفلة، قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: أن يرزقوا الناس الطلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود بن أبي هند، سألت سعيد بن المسيب عن الشراب الذي كان عمر رضي الله عنه أجازه للناس؟، قال: هو الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثا، حدثنا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
عن قتادة، عن أنس:"أن أبا عبيدة، ومعاذ بن جبل، وأبا طلحة، كانوا يشربون من الطلاء ماء ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه ".
حدثنا أبو فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، قال: كان علي رضي الله عنه يرزقنا الطلاء، فقلنا له: ما هيئته؟ قال: أسود، ويأخذه أحدنا بأصبعه.
حدثنا وكيع عن سعيد بن أوس، عن أنس بن سيرين، قال: كان أنس بن مالك عقيم البطن فأمرني أن أطبخ له طلاء حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فكان يشرب منه الشربة على أثر الطعام.
حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن مغيرة، عن شريح عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: كان يشرب الطلاء بالشام، فهذا كله يقتضي جواز شرب المطبوخ، وقد قال صاحب " الاستذكار ": لا أعلم خلافا بين الفقهاء في جواز شرب العصير إذا طبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فعلمنا بدلالة هذه الآثار أن المراد من الحديث الذي رووه القدر المسكر لا للقليل منه توفيقا بين الآثار حتى لا يقع التضاد فيها، فهذا كما رأيت أن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر كعمر، وعلي، وغيرهما ممن ذكر فيما ذكرنا كانوا يحللون شرب النبيذ، وكذا من بعدهم جماعة من التابعين الكبار كالشعبي وأمثاله. وكذا إبراهيم النخعي وأمثاله، وكذا علقمة، والأسود، وابن أبي ليلى، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسفيان الثوري مع ورعه وتقواه كان يشرب من النبيذ الصلب حتى تحمر وجنتاه.
وعن وكيع: أنه كان يشرب في ليالي رمضان تقويا على العبادة. وقال في " شرح الأقطع ": وقد سلك بعض الجهال في هذه المسألة طريقة قصد بها التشنيع، والفروق عند العوام لما ضاقت عليه الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قال لبشر: ناس من أمتي يسمونها بأسماء طريق، قال هذا القائل: وهم أصحاب أبي حنيفة، وهذا كلام جاهل الأحكام، والنقل، والآثار، أو متعصب قليل الورع لا يبالي بما قال.
ثم يقال لهذا القائل: ما رميت بهذا القول أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله، وإنما رميت السلف الصالح، أردت بذلك، ولم يمكنك التصريح بذلك؛ لأن أصحاب أبي حنيفة لم يبدعوا في ذلك قولا، بل قالوا ما قال أئمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه التابعين وزهادهم. وكيف يظن بابن عمر، وعلي وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، أنهم شربوا خمرا غليظا في اسمها حتى استدرك عليهم هذا القائل حقيقة الاسم، والظن بنفسه، ونسي الظن بسلفه أن هذا لجرأة في الدين.
ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة،
والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث
ــ
[البناية]
وذكر الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي: أن إباحة نبيذ التمر والزبيب يجب اعتقادها كيلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة والتابعين. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: من إحدى شرائط مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يحرم نبيذ التمر. وروي عنه أنه قال: لا أحرمها ديانة، ولا أشربها مروءة.
م: (ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة) ش: هذا جواب بطريق التسليم، يعني سلمنا أن هذا الحديث صحيح، ولكنه محمول على القدح الأخير؛ لأن المسكر هو القدح الأخير حقيقة واردة ما قبله من الأقداح مجاز، وإذا أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى المجاز، وقد مضى تحقيق الكلام فيه.
ومما يدل على أن المراد وهو القدح المسكر لا القليل ما ذكره ابن قتيبة في كتابه الأشربة «عن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: أنه شرب هو وأصحابه نبيذا شديدا في وليمة، فقيل له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا بحديث سمعته من أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبيذ. قال: حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل أمتي على منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، إن الله سبحانه وتعالى ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل لهم منه الغرفة، وحرم منه الشرب، وإن الله سبحانه وتعالى ابتلاكم بهذا النبيذ، وأحل منه القليل، وحرم منه السكر» .
ومن ذلك ما ذكره في " المحيط ": أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر حرام" فقيل: يا رسول الله: إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر فلا بأس به، وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام» ولهذا قال أبو يوسف: لو شرب تسعة أقداح من النبيذ فلم يسكر فأوجر العاشر وسكر فلا حد عليه، ولو أوجر التاسعة وشرب القدح العاشر بالاختيار وسكر يحد.
م: (والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث) ش: إنما لم يذكر اسم هذا النوع من الأشربة لاختلاف وقع فيه، قال منهم من سماه: يا يوسفي، ويعقوبي، لأن أبا يوسف كان كثيرا ما يستعمله، ومنهم من سماه نجيحا، وحميديا؛ لأنه منسوب إلى رجل اسمه حميد بن هانئ، ومنهم من يقول: جمهوري منسوب إلى