الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرابلس الشام
في سنة 1112 هجرية أي منذ مائتين وعشرين سنة تقريباً زار الشيخ عبد الغني النابلسي مدينة طرابلس.
والشيخ عبد الغني هذا مفخرة من مفاخر دمشق الشام وواسطة العقد الذي ينتظم علماءها الأعلام:
كان رحمه الله عالماً فقيهاً أصولياً صوفياً أديباً شاعراً وهو مشهور بالولاية وله قدم وذوق في علم الأحوال. وقد ألف في معظم فنون زمانه حتى فن الفلاحة والزراعة. فلا غرو إذا احتفل به أهل طرابلس الاحتفال اللائق بعلمه وفضله وشهرته التي ملأت الخافقين.
وكان سبب زيارته طرابلس دعوة من حاكمها إذ ذاك أرسلان محمد باشا قصداً للنفع العام
تولى أرسلان محمد باشا الحكم في طرابلس بعد سقوط أسرة آل سيفا الشهيرة في تاريخ سورية والتي حكمت في طرابلس وعكار وعرقه وما يلي ذلك من النواحي حقبة من الزمان ثم زال حكمها سنة 1068 هجرية.
ولما وصل الشيخ النابلسي إلى طرابلس الشام ذهب تواً إلى دار السعادة وهو اسم لمنزل الأمير أرسلان باشا المشار إليه. لكن الأمير كان قد أعد لنزول الشيخ داراً أخرى وهي دارس حسين جلبي آغاة مينا طرابلس. والذي يسمع وصف هذه الدار يخال نفسه في عالم ألف ليلة وليلة وأنه يقرأ فصلاً من فصولها: فقد كانت تلك الدار. كجنة النعيم دار
القرار. تنتعش فيها الأرواح وتبتهج بها الأشباح، وهي محتوية على بيوت فاخرة. وأماكن كثيرة عامرة ذات مياه رائقة وأحواض دافقة. وفي ساحة هذه الدار بركة ماء طولها أربعة عشر ذراعاً. وعرضها سبعة أذرع وباعاً. وأمامها مقعدان. لطيفان وعليهما عرائش العنب. وبينهما فسقية صغيرة من الرخام الأبيض يتدفق ماؤها كأنها كأس بلور زانه الحبب. وبأرجاء هذه الدار بساتين وأشجار، ورياحين وأزهار ما بين ياسمين وسيسبان. وأشجار نارنج وفاغية وريحان. . وكنت منذ أيام سمعت مدير مينا طرابلس يساوم في أجرة دار يريد سكناها في المينا فلم يشأن أن يدفع سوى ثلاثة ريالات في الشهر. أما آغاة المينا منذ مائتين وعشرين سنة فقد كانت له - عدا الدار التي مر وصفها - دار أخرى في المينا لا تقل شيئاً عن تلك الدار: فقد كانت قصراً رفيعاً. ومكاناً مشرفاً بديعاً، وهو مطل على البحر المتلاطم بالأمواج. وشبيه في سموه بهاتيك الأبراج. وجهاته مطلقة. وجوانبه على هاتيك
البساتين والمرج الأخضر مشرفة.
وقوله: هاتيك الأبراج إشارة إلى أبراج أو مسالح سبعة مبنية على شاطئ البحر أمام طرابلس الشام. كانت تشحن بالسلاح والذخائر والمقاتلة لحماية الثغر من عدو مهاجم أو قرصان متلصص. وبين البرج والبرج ألف خطوة أو أكثر أو أقل. وهذه الأبراج من بناء الصليبيين. لكن المسلمين لما استولوا عليها كانوا يرممونها ويزيدون فيها ما يكسبها قوة ومناعة. وفي بعض هذه الأبراج محراب للصلاة، ومن ثمة ذهب بعضهم إلى أن هذه الأبراج مما شيده المسلمون. لكن التحقيق أنها من
آثار الصليبيين. ولم يبق منها اليوم سوى برجين ماثلين في الساحة التي اتخذت الآن محطة كبرى للسكة الحديدية التي تصل طرابلس بحمص وتتم بعد بضعة أشهر. وعما قريب يعفى أثر البرجين المذكورين من لوح الوجود كما عفي أثر سائر الأبراج التي اشتراها الأهلون من الحكومة وشادوا عليها وبأنقاضها مخازن وبيوتاً.
لبث الشيخ النابلسي في طرابلس زهاء خمسة عشر يوماً. وقد اجتمع بفضلائها وعلمائها. وتجول في أرياضها ومتنزهاتها. وأحصى جوامعها وحماماتها. ولما ركب زورقاً للنزعة في البحر ورأى أشكال القوارب ومختلف هيائتها سأل عن كل واحد منها وسرد أسماءها. فكانت عشرين نوعاً.
وكان إذا ذكر حماماً قال إن مسلخه كبير أو صغير وفيه حوض من رخام أو ليس فيه. وذهب بعض الفضلاء إلى أنه يريد بكلمة المسلخ المكان الذي فيه يسلخ المغتسلون ثيابهم أي ينزعونها. وقد أعاد هذه الكلمة مراراً. فكأنها كانت شائعة في زمانه. ولا نعلم إن كانت تستعمل اليوم في دمشق بهذا المعنى أو لا؟
وكانت تجري بين الشيخ النابلسي وبين علماء طرابلس وفقهائها مذكرات ومباحثات ومطارحات. وكان معظمها أو كلها يدور حول غرائب الأبحاث ونوادر المسائل النحوية والفقهية كمسائل الوقف والطلاق وغير ذلك. فكان كل منهم يذكر قولاً رآه في بعض الكتب لبعض الفقهاء ويطلب رأي النابلسي في المسألة أو هو يطلب رأيهم فيما أشكل عليهم أمره.
ومما يستدعي الملاحظة أن علماء طرابلس أو علماء ذلك العصر كانوا
مفتونين بحب كتب العلم، يتنافسون باقتنائها ويتباهون بنوادرها. فكان الشيخ النابلسي كلما زار فاضلاً في داره
عرض عليه ما عنده من نفائس الكتب ونوادر الأسفار العلمية والأدبية ويأخذ كل منهم في سرد ما يعلمه من هذا القبيل.
ومما يلاحظ أيضاً أن مدة الخمسة عشر يوماً التي قضاها النابلسي في طرابلس - وكانت كلها مذاكرات ومباحثات - لم يجر فيها ذكر لمدارس التعليم - فلم يذكر تلميذ ولا مدرسة ولا للعائلة - فلم تذكر امرأة ولا تربية وبيت. ولا للصناعة والتجارة - فلم تذكر حرفة ولا بضاعة ولا حانوت. ولا للعادات والتقاليد - فلم يذكر شيء من أمور الأفراح والمآتم والحفلات الأخرى حتى كأن طرابلس في ذلك العصر ليس فيها تلميذ ولا امرأة ولا صانع ولا تاجر ولا شيء من مميزات كل هيئة اجتماعية أو أن الكلام في هذه الأشياء ليس مما يهتم به أو هو مما لا يحسن أن يدور الحديث بشأنه بين رجال الطبقة العالية.
وأغرب من جميع ما ذكر أنه لم يجر حديث بينهم عن شؤون السياسة وأخبار الحكومة وأحوال الدولة، فلم تذكر أسلامبول ولا اسم السلطان ولا محاربة ولا معاهدة ولا وزارة ولا شيء من هذا القبيل. مع أن الطبقة التي يجالسها الزائر الكريم من أعلى طبقات طرابلس في العلم والوجاهة والنفوذ والاتصال بالمقامات العالية خارج طرابلس. فهم الحكام الإداريون. والقضاة والمفتون.
فما أكبر الفرق بين زمننا هذا الذي يذكر فيه اسم الحكومة وشؤونها
ألوفاً من المرات كل يوم - وذلك الزمن الذي لم أسمعهم ذكروا فيه شيئاً من هذا القبيل مدة خمسة عشر يوماً. فسبحان مغير الأطوار. ومقلب الليل والنهار.
المغربي
قال الأديب صاحب الإمضاء يصف موقعاً بديعاً قامت في سفحه مدينة طرابلس الشام موطن أسرته. وتظهر البلد للمشرف من هذا الموقع وقد انسحبت وراءها البساتين وجرى من خلفها البحر ويرتجف وليس بينها وبين السماء في نظر العين إلا أن تتخطاه:
يا صخرة حملتنا في ذرى جبل
…
إليه معطف قلبي حين ينعطف
إن شبهوا بربك قلباً قاسياً فأنا
…
أراك قلباً بنا من حبه شغف
كم في لياليك أنفاس يكاد بها
…
قلبي - وقد ذكر الأحباب - يختطف
آنست من مسها في مهجتي سحراً
…
مس اللحاظ تحيينا وتنصرف