الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 7
- بتاريخ: 1 - 10 - 1910
غلاء المعيشة
موضوع يستحق البحث والتمحيص، وداء يدعو إلى إعمال الفكرة لاستئصال جراثيمه التي تمكنت من جسم الأمة فباتت تنخره نخراً حتى كادت تقضي عليه.
ولسنا نطرق هذا البحث كالأبحاث التي تطرقها المجلات من حين إلى حين فتضرب على أوتارها على نغم واحد، أو يعمد إلها الكتاب والمنشئون متى جمدت قريحتهم وأغلق عليهم إيجاد موضوع يطلقون ليراعهم فيه العنان، بل نطرق هذا الموضوع لأنه حديث السواد الأعظم من الشعب الشاغل الأكبر للأفكار. ومن لم يقل به علناً أصبح يهدس به سراً. فإن مجموع الشعب لا يشتغل بالأحزاب والمضاربات ولا يهتم للتصريحات السياسية والأنباء البرقية. ولكنه يصرف جل كلامه واهتمامه إلى الغلاء المحدق به من كل جهة: غلاء المأكول، غلاء المشروب، غلاء المسكن، غلاء الملبس. . إلخ.
كل شيء غالٍ: الحياة غالية، الموت غالٍ. .! وليس ذلك من
قبيل المبالغة. فإن الجمعيات الخيرية قد صارت تدفع منذ مدة لدفن الموتى الفقراء أضعاف ما كانت تدفع من ذي قبل.
* * *
ماذا يفيد ما تدعوه تمدناً عصرياً إن لم يكن وراءه إلا رفاهية الأغنياء وبذخهم - وهم القليلون - وشقاء الفقراء وبؤسهم - وهم الكثيرون؟ وهل نعد تمدناً أو حضارة أو رقياً تلك الحركة الآئلة إلى هنا الأفراد وعناء المجموع؟
يتبادر إلى الذهن أن رواج المعاملات وكثرة المعامل وسهولة المواصلات التي تقرب بين شواسع الأقطار إلى غير ما جاد به العصر من الاكتشافات والاختراعات المسهلة أبواب الارتزاق لمما كان يجب أن يؤدي إلى محاربة الغلاء وزيادة الرخص وتوفير أسباب الهناء والسعادة في الطبقة الوسطى. فهل نحن حاصلون على ذلك؟ وهل كانت النتيجة كذلك في أطراف المعمور؟ قليلة هي البلدان التي فازت بهذه الأمنية. فإننا نرى على الغالب أن كل هذه الأمور الآنفة الذكر لم تجر إلا رفه ذوي اليسار وتنعم أصحاب الدرهم، بعد أن ساعدتهم على ابتزاز الأموال واحتكار ثروة العباد.
من أحسن محاسن الشرائع السهر على مصالح الأفراد والعمل على الذود عن حقوقهم ومرافقهم. وكل حكومة عاقلة عادلة تدرك واجباتها وتفهم أنها القيمة على الرعية. . . وما ألطف وأسمى ما كان يقول هنري الرابع ملك فرنسا: أود لو تمكن كل شعبي من أن يطبخ
اللحم في كل
أسبوع ويذوق شيئاً من رغد العيش. . .
وقد أطلعنا مؤخراً على إحصاء ظهر عن نفقات المعيشة في فرنسا فأخذنا منه أن هذه النفقات ظلت تتصاعد منذ أول القرن التاسع عشر حتى سنة 1883 وأنها أخذت منذ ذاك العهد تتناقص تدريجاً. وما ذلك إلا بفضل الحكومة الساهرة على كل الطبقات من رعاياها فإن معدل نفقات المآكل كان في منتصف القرن الغابر 1052 فرنكاً سنوياً فنزل في سنة 1903 إلى 915 فرنكاً. والفرق عظيم إذا قابلنا بين النفقات في بلادنا منذ خمسين سنة وبينها اليوم ورأينا الصعود الفاحش الذي طرأ عليها حتى أصبحت أضعاف أضعاف ما كانت عليه.
وما رأينا صعوداً في الإحصاء المذكور عن فرنسا إلا على أجار المنازل وهناك أسباب شتى لا تخفى قضت بذلك. على أن الكثيرين يسعون إلى ترخيصها حتى تسهل المعيشة من هذا القبيل أيضاً. فإن شركات متعددة نهضت تشتري الأراضي وتبني فيها المساكن الملائمة لتأجيرها بأثمان غاية في الاعتدال. ويا حبذا لو رأينا عندنا مثل هذه الشركات ونحن في أمس الحاجة إليها.
قلنا إن نفقات المعيشة في فرنسا نقصت في نصف القرن الغابر. وإن الدخل قد زاد زيادة تذكر فإن الماهيات ارتفعت حتى 111 في المئة عما كانت عليه. ومن المعروف أن الشعب الفرنساوي بات الآن من أسعد الشعوب وأغناها. ولا نبحث عن سبب غناه في غير ما تقدم.
* * *
وإذا نظرنا إلى باقي البلاد نرى أن نفقات المعيشة قد ازدادت. ومعدل هذه الزيادة 15 في المئة في كل من إنكلترا وألمانيا والنمسا. بيد أن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم باتوا يهتمون ويشكلون اللجان من الاقتصاديين الخبيرين لمداواة هذا الداء ونحن جامدون لا نخطو خطوة في سبيل هذا الإصلاح الضروري تاركين للطبيعة أن تطبب مرضنا هذا. فالطبقة الموسرة لا يهمها زيادة بضع مئات من الجنيهات على نفقتها، والطبقة المتنورة على حد قول المثل عينها بصيرة ويدها قصيرة. . . هذا والشعب المسكين يكاد يرزح تحت أعباء حمله الثقيل.
أما وقد ضرب الغلاء أطنابه في أكثر الأنحاء فلننظرن في الأسباب الداعية إليه والعلاج الواقي منه.
إن هذه الأسباب منها اقتصادية ومنها سياسية ومنها أدبية أما الأسباب الاقتصادية فهي ناجمة عن حماية التجارة التي لا يزال معمولاً بها في أكثر البلدان. ولا ننكر أن هذه الحماية قد تجر نفعاً ولكنها في الغالب تساعد أصحاب المعامل والأراضي الواسعة دون سواهم بضرب الرسوم الفاحشة على الواردات الأجنبية فيصبحون ولا مزاحم لهم يتقاضون الأسعار الباهظة عن سلعهم وأغلالهم والناس مضطرون إلى قبولها. وإذا أضفنا إلى ذلك زيادة الطلب على كل الأصناف نرى أن غلاء المعيشة هو معلول طبيعي لهذه العلة.
أما الأسباب السياسية أو الإدارية فهي زيادة الماهيات وأجرة العملة. وليست هذه الزيادة مبنية على مقاسمة الأرباح بين العامل وصاحب
العمل بل ناتجة عن الاعتصابات المتعددة فزاد ثمن الأشياء لزيادة أجور العمال وتنقيص ساعات العمل وقد رأينا مثلاً في السنة الماضية صعود أسعار الفحم مع أن مناجمه غنية متوفرة لأن إضراب الفعلة عن العمل شهوراً طويلة قد قلل المحصول.
وهناك أيضاً أسباب أدبية لها تأثير في الغلاء أكثر مما يظنه البعض. فإنه قد سادت في عصرنا روح المساواة والتماثيل في المعيشة. فابن هذه الأيام يجهد نفسه وكثيراً ما يبذل ماء وجهه ليجاري جاره في الأكل والشرب والملبس والمسكن وكل مظاهر الأبهة والفخفخة ولو كان بين ثروة هذا وذا بون شاسع.
وقد نزلت النساء إلى هذا الميدان فكان لهن النصيب الأوفر، وغني عن البيان ما يتأتى عن هذه المنافسة من غلاء الأسعار وزيادة النفقات.
أما ملافاة هذه الأسباب ومداواة هذا الداء فأمر منوط بالحكومات والأفراد: على الحكومات أن تسعى لإزالة السببين الأولين أعني الاقتصادي والسياسي وذلك برفع حماية التجارة شيئاً فشيئاً واستبدالها بحرية المبادلة المطلقة ثم بضمانة حرية العمل للعمال وسن القوانين لوقايتهم. . . وعلى لأفراد نبذ هذه الأضاليل والأوهام فليست المساواة الحقيقية قائمة على بعض مظاهر خارجية بل هي مبنية على مساواة الحقوق والواجبات. وعليهم أيضاً الرجوع إلى بعض البساطة القديمة ففيها هناء أكبر ورغد أكثر ونعيم أوفر. . .