الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأميران في سورية
أميران جليلان زارا سورية في الشهر الغابر، وتنقلا بين آثارها وربوعها: البرنس فردريك ايتل نجل أكبر عاهل غربي، والأمير محمد علي شقيق أعظم أمير شرقي. جاء الأول القدس الشريف للاحتفال بتدشين المستشفى الألماني، وزار الثاني سورية ولبنان سائحاً متجولاً. فكان في زيارة الأميرين أكبر معنى، وأشرف مغزى.
1
فلسطين وطن الأنبياء، ومهد الشعر والشعراء:
وقف أرميا في ربوعها راثياً، فسالت قريحته بأرق الأشعار، وقام على أطلالها نادباً باكياً، فعلم الشعراء كيف يكون الوقوف والبكاء على الأطلال.
وأنشد النبي داود متغزلاً بابنة صهيون على المزمار والقيثارة، فأوقف العالم على سر الغزل والإنشاد. . .
ورفع سليمان في أورشليم، عمد هيكله العظيم، فعلم الملوك كيف تبنى الهياكل، وترفع الأعماد. . .
شعوب إثر شعوب، وملوك تلو ملوك، توالت على تلك الناحية وعرفت منتهى العظمة والعمران، وذاقت ثمالة المذلة والهوان.
هذه هي فلسطين التي ترحب اليوم بابن عاهل الألمان ومواطن جوت وشولر، ترحب وتؤهل ذاكرة ملوكها وشعراءها، وقد حظيت في جوفها رفاتهم، وفي هوائها أنفاسهم، وعلى آثارها وفي هياكلها ذكرهم وأسماءهم.
ومن تلك الآثار العافية، والهياكل الدارسة، ينبعث صوت الإرشاد والذكرى.
وفوق أشلاء المدن، وتراب الممالك التي يدوسها اليوم ابن الإمبراطور تقرأ سطور العظمة والعبرة
فعسى أن يكون قد ذكر واتغظ واعتبر
يصعد الرحالة النشيط مجرى النيل ليقف على منبعه، وكذلك صعد الأمير الألماني إلى جبل الزيتون ليجد الدين هناك سالماً طاهراً، قبلما تشوب صفاءه كدرة أهواء البشر وأغراضهم، وتفسد طعمه العذب مرارة تراهاتهم وسخافاتهم.
فعسى أن يكون قد فاز بتلك الأمنية.
وحينئذ يعود إلى بلاده، حاملاً في برديه، كلمة الوئام والسلام، بعدما اتعظت نفسه بعواقب العدوان والخصام.
ويدرك معنى الثورات والانقلابات، بعد أن راد بلاداً حدثت فيها الثورات الكبار، فأكلت العروش، وقرضت الجماعات والأجيال.
ويعرف كيف تساس الأمم، وتقاد الشعوب، وكيف يكون التاج المرصع على مفرق القياصرة، بعدما رأى إكليل الشوك مدمياً جبهة ابن داود. . .
هذا ما نريد أن يعود به أمير الغرب من الشرق، ولا نريد أن نفهم لزيارته غير ذلك من المعاني
في الماضي أرسل هارون الرشيد مفاتيح البيعة إلى كارلس الأكبر
إمبراطور الفرنجة دليل الاتفاق والسلام، واليوم يزور البيعة ابن الإمبراطور الأكبر فليكن ذلك دليل التصافي بعد الخصام.
2
مصر وسورية قطران شقيقان، وبلدان متاخمان. يجمعهما التاريخ وتربطهما اللغة والعادات والتقاليد. ولقد أصبح الأدب، أشد رابطة بينهما من صلة النسب.
نحن في عصر كثرت فيه المزاحمة، واشتدت المنافسة، حتى كادت كل أمة تخشى أن تمشي وحدها، فعاهدت وحالفت للتضافر والتآزر في سيرها العمراني.
وكل شيء يمهد للقطرين المصري والسوري سبل التعاهد والتحالف، ليسيرا جنباً إلى جنب في مدارج الرقي، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الفوائد الجمة.
زار الأمير محمد علي ربوع الشام، وقد عرفت الشام ما بينها وبين مصر، فنهضت نهضة واحدة لتكرم مثوى الأمير المصري، وهي تكرم في شخصه الكريم كل سكان وادي النيل.
ولائم ومآدب، وخطب وقصائد، وجموع هازجة، وجماهير مهللة، في بيروت ولبنان ودمشق وحمص وحماه وحلب وطرابلس وفي كل مدينة حلها الأمير ضيفاً كريماً على السوريين.
أمراء عظام، وضيوف أعلام زاروا سورية قبل الدستور وبعده، فاستقبلتهم الحكومة استقبالاً
رسمياً، ولكن لم يحتفل بهم الأهالي
احتفالاً عاماً أهلياً
لأن زائر اليوم ضيف ولا كالضيوف، وأمير ولا كالأمراء. هو شقيق مصر، ومصر شقيقة سورية: في الماضي والحاضر والمستقبل، في السراء والضراء.
صفقت أفنان رياض الشام، وأغصان أرز لبنان لوصول الأمير المصري
واهتزت آثار بعلبك وترنحت طرباً للقاء من ربي بجوار الأهرام
وانسابت مياه العاصي والليطاني لتحية ابن النيل
وقامت جبال سورية تنظر إلى سليل إبراهيم باشا لأن اسم إبراهيم قد ملأ تلك الأنحاء، وذكر عدله قد سكن قلوب بنيها
ولئن طافها العلم المصري في يد إبراهيم غازياً، فهو يطوفها اليوم في يد محمد علي مسالماً مصافياً.
في جوار بيروت غابة الصنوبر زرعها إبراهيم باشا على ما يقال ليرد عن المدينة غارات الرمال، فكانت تلك الغابة إكليلاً أخضر على جبهة بيروت
في تلك الغابة استقبلت بيروت حفيد إبراهيم، وهي لعمري فكرة جميلة، لم تخف على الأمير.
جلس الأمير في ظل تلك الأشجار الباسقة الملتفة الأغصان، فذكر جده. وسمع بين حفيف الأوراق صوتاً معروفاً ينشده:
لئن بت بالمجد المؤثل مغرماً
…
فقد كان إبراهيم بالمجد مغرما
و (الزهور) السورية البذرة، المصرية المنبت، تنتظم إكليلاً باهراً على جبهة مصر وسورية، لتحية ابن مصر نزيل سورية.