الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمدن المرأة العصرية
عودٌ على بدء
كتبت في العدد الثامن من هذه المجلة الغراء عن المرأة العصرية وكيفية استعمالها التمدن الحديث، وما جلبته من الأضرار بسبب فهمها قشوره لا لبه. وقد أرسلت على ذلك حضرة الآنسة الأديبة ادما كيرلس رداً لطيفاً، ذكرت فيه أني رشقت بنات جنسي بأحد السهام إذ وصفت المرأة التي تقتل الوقت بالزينة، وأهملت ذكر التي تعمل لاكتساب الفضيلة والتحلي بها. وعليه أجيب: إن الذي حملني على وصف النساء المهملات لواجباتهن دون المتفانيات في سبيلها هو أن تلك التي تسعى في خدمة العائلة وتضحي الملاهي والمسرات لتحافظ على ترتيب داخليتها ومستقبل صغارها هي قليلة جداً بالنسبة إلى العدد الكبير من أخواتها الباقيات، يوجد منها تقريباً عشرة بالمئة. وهذا عدد زهيد لا يبنى عليه حكم، ولا يقوم بالشرط المطلوب لسد الثلمة الواسعة في صرح الترقي والعمران. وعليه فقد تكلمت بمقتضى الحالة العمومية التي هي المصدر الحقيقي لكل عامل إن تأخر وإن تقدم. غير أن أقوالي أصابت الحقيقة عينها، ولذا جاءت جارحة لبعض القلوب اللطيفة، ولكني لم أبح بهذه الأفكار، إلا لاعتقادي بوجودنا في عصر النور والمعارف، عصر الحرية، حيث لا يجوز حجب الأفكار عسى أن يستخرج من كل فكرة فائدة، فنصل بعد ذلك إلى الغاية المطلوبة من ازدياد المعارف وارتقاء المدارك.
وقد قالت حضرة الكاتبة عاذرة، بنوع ما، التي تتبع المودة ناسبة هذا لمهارة يديها بعد أن تكون حافظت على نظافة الملابس، فتمكنت من قلبها حسب الذوق الدارج، وقد أتت عبارتها هذه في محلها من الحق والعدل. على أنه يقال في هذا ما قيل في تلك، أعني إن المرأة البارعة التي تتزين بفضل مهاراتها وتفننها، ولا تتبع المودة إلا بعد أن تكون حافظت على إتمام واجباتها هي من العدد القليل، وليس لإصلاحها تأثير يذكر في بابا لخراب الواسع. وكم من زهرة ضاعت بين أشواك فخنقت، وكم من نجمة سترت تحت غيوم السماء فحجبت نورها عن الأبصار. فلم يظهر للناظر إلا الظلام الحالك وهكذا نحن لا يمكننا إلا أن نرمي في مقالنا إلى العدد الكبير أي إلى اللواتي يصرفن الغالي والرخيص في اتباع ما تختلقه ربات الأزياء، وهذا أمر أصبح أشهر من نار على علم. فكم من رجل
يئن لبذخ امرأته. وعدم مراعاتها أحواله، وكم من أولاد أشرفوا على التهور في دركات الهلاك، ووالدتهم بشاغل عنهم في إعداد الزينة والتفنن بها. وكم من أب أحنت ظهره متاعب الأيام، وبيضت شعره أهوال الزمان، غير أنه يبكي الآن لما يشاهده من اعوجاج الأزياء، وترك البساطة القديمة وعدم اللياقة في الأثواب، فأصبح ينظر لابنته المتقلدة نظرة المهيب الموبخ وإذا لم تعبأ بنظرته يئس وقال: حبذا يوم أرى فيه مماتي جاهلتي هذه تبذل النفس والنفيس لتتمثل بالعاقلة، وتتحلى نظيرها بحلى العلم والفضيلة، التي لا تشوبها شائبة ولا تؤثر فيها الأهواء والأزياء: وإننا نرى مثل هذا الأب آباء يبذلون كل ما في وسعهم ليبثوا روح البساطة وسلامة الذوق في
قلوب النساء، وما تقرأ في الجرائد من الانتقاد علينا وعلى أزيائنا يؤيد صحة قولي. فعليه يكون أتباعنا للتقاليد المضرة على رضى تام منا أما لمطابقتها لأذواقنا ودرجة معارفنا، وإما لمراعاتنا أصوات الجهلاء. وعلى كل فإن لم يزد عدد المصلحات فينا على عدد المخربات، فلا أمل بالنجاح، وعبثاُ ننادي بالإصلاح دون الشرط المتقدم.
أما ما كان من نزوعنا عن لغتنا العربية إلى اللغات الإفرنجية فليس من ذنب على الرجال في هذا الباب، كما زعمت حضرة الكاتبة الأديبة، بل هم يعذرون إذا اعتبروا من أتقنت اللغات الغربية دون سواها، لأن معرفة اللغات الأجنبية تدل على زيادة علم وارتقاء، فضلاً عن أنها لغة الاختراعات والمعارف، ومن لم يتقنها حتى ن الرجال لا يمكنه أن يكون عاملاً مفيداً في الهيئة الاجتماعية. على أن هذا لا يمنع أن نحفظ للغتنا المركز الأول خصوصاً وفيها ما لا يقل فائدة عن آداب بقية اللغات، وإذا قلنا بوجوب تعلمها لا نعني الاقتصار عليها فقط، كلا، بل المراد من ذلك جعلها اللغة الأصلية التي لا يجوز إهمالها مطلقاً، لأنه من الضروري أن يعرف ابن كل أمة آداب لغته، وما فطر عليه أجداده، وكيف كانت أحوال بلاده.
فلنا نحن الشرقيين في هذا ما تفاخر به، ولو ثابرنا نحن أيضاً معشر النساء على درس اللغة العربية، وأتقناها كما يجب نظير بقية اللغات، إذ لم أقل أكثر، لحملنا الرجال على احترامها واعتبارها فيا بتكريمهم من أتقنت العربية أكثر من سواها ولكن من أين لنا هذا ونحن نرى أن أم العائلة
إذا أرادت مناغاة ولدها ناغته بلغة أجنبية، ومتى كبرت ابنتها
وأسمعتها نصائحها سمعتها الابنة بلسان أجنبي. وعليه تشب هذه الصغيرة وعندها الميل الأكثر إلى ما تعودت سماعه فتظن أن اللغة الأجنبية تغنيها عن لغة قومها وهكذا تغفل وتكون على جهل تام من العربية وتاريخها، وقد رأينا كثيرات من اللواتي يتجاهلن لغتهن ظناً منهن أن في ذلك مفخرة لهن، أو بالأحرى تفرنجاً. فانظرن، يا صاحبات الرأي الصائب فينا، إلى هذه الأفكار التي سرت في عقول أكثر فتياتنا. أليس هذه دليلاً واضحاً على تأخرنا؟ وهل يرجى تعميم اللغة العربية وارتفاع شأنها عند الجنس اللطيف وفيه من يحتقرن ويجهلن لهذه الدرجة لغة أجدادهن؟ لعمري إن لم نسع لاستئصال هذه الأوهام من عقول هؤلاء الأخوات يخشى علينا من زيادة التهور. ولا يجب ن نلقى من هذا القبيل كل اتكالنا على الرجال إذ نحن صاحبات التأثير الأكثر مفعولاً في استمالة الرغائب والأميال لكل غاية نقصدها، فعسى أن ينصرف هذا المقصد إلى ما فيه هدايتنا ونهضتنا.
وإني بكل شكر وسرور أبسط يدي من هذا الوادي لمصافحة اليد التي بسطتها لي أديبة بيروت، بل أضع يدي بيدها للسير في الدفاع عن بنات جنسنا كل واحدة على طريقتها. كما أنني أرجو من سائر أخواتنا أن يطرقن هذه المواضيع التي تدور على شؤوننا الخاصة لأن بها العامل الأكبر على ترقينا ونهوضنا عسانا نصادف في الزهور الطريق المؤدية إلى ما فيه خيرنا وفلاحنا.
- مصر هدى إسكندر كيورك