الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين عرش ونعش
نزل إدوارد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند من العرش إلى النعش، وأدرج في الأكفان، بعد ما جر ذيول الأرجوان، وغيب في ظلمة القبر بعد ما طلع في صدر الإيوان. وخلفه ولده وولي عهده جورج الخامس في حكم الملايين من الناس، بعد أن طاف الممالك والأمصار مثل أبيه، ودرس أميال الشعوب ليعرف كيف تساس، وإذا كان حكم مدام دي جنليس الكاتبة الفرنسوية القائلة: إن الأمراء هم أسوأ تربية من كل الناس بمعنى أن تربيتهم تبعدهم عن معرفة حقائق هذه الحياة - وإذا كان حكمها صحيحاً في أكثر الأمراء فهو لا يصح في إدوار ملك الأمس ولا في جورج ملك اليوم، فلقد عرف كلاهما حقائق هذه الدنيا قبل أن قبض على زمام الأحكام. . . وقد أفاضت الصحف في الكلام عن السلف والخلف، وعرف القراء كل ما تهم معرفته عن العاهل الراحل والملك الجديد. فاكتفينا بتلخيص فصل من كتاب ألفه إدوارد السابع وترجم إلى الفرنسوية، عنوانه تأملات في الموت والأبدية وإليك ما قاله الملك - الكاتب المتوفى عن الموت:
الخوف من الموت
لو أتيح لنا نحن البشر أن نرى منذ مهدنا كل الحوادث وصنوف العذاب التي تنتظرنا، لكان خوفنا من الحياة أشد من خوفنا من مغادرة الحياة.
كثيراً ما شبهوا هذه الحياة برحلة نبدأها غير مخيرين، وننهيها مضطرين، فتركض إلى الأمام بسرعة وقلق. ونسير في فجر الصبح المكفهر خارجين من ظلام الليل إلى ظلام آخر. وهذا عمل الله من البداية إلى النهاية.
ما هو الموت؟ هو الانطفاء كالنور، هو نسيان المرء نفسه وكل حوادث ماضيه كما ينسى الأشباح التي يراها في حلم خاطف، هو إبرام علائق جديدة بالعالم الرباني، هو الدخول في منطقة أعلى، هو خطوة نحو ارتقاء الخليقة لا يقدر عليها الإنسان.
فلماذا نخاف من الموت وما هو الانتقال إلى حالة أحسن. لماذا، عندما نفكر بانحلالنا، نزيد حباً بالحياة أية كانت؟
ليس خوفنا من الموت بل من تصورنا للموت. فأبعد هذه التصورات عن فكرك، وانظر إلى الموت كما هو، يقل هول الموت في عينيك.
لا قيمة للحياة إلا إذا استعملناها لإصلاح نفوسنا، وتزيين عقولنا بأشرف الصفات، ونشر السعادة حوالينا. وعندما نعجز عن ذلك لتقدمنا في العمر فنفقد كل أمل بالتقدم في هذه الطريق، تكون الحياة قد فقدت قيمتها الكبرى.
تستولي علي قشعريرة باردة عند التفكير في الموت وكأن كل عرق فيّ يحاول مقاتلة الانحلال والانفصال. ومع كل ذلك لابد من الموت.
لماذا جئت هذا العالم؟ ولماذا لا أرى الموت كما أرى الحياة، وأنا قد منحت كليهما على غير إرادة مني!
ما عساني أن أكون بعدما أجد من شكلي الإنساني وأقطع من البشرية؟ أن هذا الريب أو الشك في ما سوف ينتظرنا هو الذي يملأنا رعباً. والظلام الذي يغشي المستقبل هو الذي يفرحنا بالنور الآن. نقدر ما في يدنا حق قدره فنخاف أن نتركه تلقاء شيء لا نعرفه.
ولو كان الخالق قد مكننا في هذه الحياة من معرفة الحياة الأخرى لما عاد الموت حاجزاً ولكان من ينتظرون ساعتهم الأخيرة نفراً قليلاً.
فهذا الرعب هو أشد رابطة تربطنا بهذه الحياة. فالجبان الذي تهوله المصائب لا يردعه عن التخلص من حياته إلا ذاك الشك المخيف.
لماذا أبكي؟ ولماذا تنوحون على من فقدتم؟ هل نحزن على الموتى لأنهم تركوا من يحبون، وغادروا حياة طالما تنعموا بها؟ ما أقل نفع هذا الحزن وذاك البكاء. .! هل نبكي كل مساء أعزاءنا لأنهم يرقدون؟ هل نرثي أنفسنا ساعة النوم؟ وأي فرق بين الموت والنوم؟
نعم إن من ينام يبقى له أمل باليقظة بقوة مجددة عند شروق الشمس. ولكن هذا الأمل - ولو بعيد الأجل - يبقى أيضاً لمن يموت. وعند يقظته يشاهد أحبابه وأعزاءه، وبعد قليل يشاهدكم أنتم أيضاً. لأن أطول حياة هي كلا شيء: سل الشيخ الهرم ابن السبعين فيقول لك: مرت حياتي كسبعين دقيقة في الحلم فعلام نبكي إذن؟
وهذا الريب نفسه لا يخيف إلا بقدر ما تكون الحياة الأخرى بعيدة، ويزول تماماً ساعة الدنو منها. ساعة الموت تظهر لنا الحياة قاتمة تافهة، ويشرق علينا المستقبل تنيره أشعة الأبدية. فالإنسان عند موته يصفي حسابه مع العالم ويلقي بركته على أحباب قلبه، ثم يعرض عن كل شيء وينضم إلى نفسه ليقطع الحد الفاصل بينه وبين الحياة السعيدة: لم
يبق في الماضي ما يؤنسه، وأصبح في المستقبل كل ما يستميله.
إدوارد السابع