الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في جنائن الغرب
اتجهت الأفكار في الشهر الماضي إلى تولستوي فيلسوف الروس الأكبر وهربه إلى الدير ليجتاز في العزلة التامة المرحلة الأخيرة من حياته التي قضاها في البحث عن الحقيقة. فرأينا أن نخصص هذا الباب بشيء من حياته ومبادئه الفلسفية.
في 9 سبتمبر الماضي أنجز تولستوي السنة الثانية والثمانين من عمره. وكان في سنة 1862 قد تزوج بابنة الدكتور برس صوفيا أندرفنا فوجد فيها أكبر تعزية في حياته وأحسن مساعد في أعماله فكانت تعاونه في جميع مذكراته وترتيبها وتنسخ مسودات تآليفه. وفي المدة الأخيرة كان يملي عليها أفكاره فتدونها. وقد رزق منها ثلاثة عشر ولداً منهم الآن تسعة أحياء. وقد رباهم على مبادئ روسو وتضلعوا كلهم في العلوم واللغات.
والذي زاد في شهرة هذا الرجل الكبير تطبيق أعماله على أقواله فقد زهد في هذه الدنيا وتنازل عن جميع ممتلكاته مكتفياً ببقعة أرض يستثمرها بنفسه. وكان يرى أن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل فكان يخيط ثيابه وحذاءه ويقضي أيامه في الإرشاد ومساعد المعوزين وقد أنشأ في مزرعته ياسنيا بوليانا مدرسة كان يعلم فيها كل يوم بضع ساعات. وله حوادث وحكايات شهيرة تتناقلها الصحف وكلها تدل على شرف عواطفه وأمياله وسمو حكمته وفلسفته. وقد اكتسب احترام الجميع ونال أرفع منزلة بين المفكرين المصلحين في حياته ومماته. ولبست روسيا جمعاء عليه ثوب الحداد. وأخذ الناس يحجون إلى قبره.
أما تآليفه فأشهرها الحرب والسلم وحنة كرنين والبعث إلخ. وقد نقلت إلى كل لغات أوروبا وعرب منها الشيء الكثير حضرة الفاضل سليم أفندي قبعين. ونحن نقتطف من تعريبه نتفاً تطلع القارئ على مبادئ الفيلسوف الروسي:
مبادئ تولستوي
تنحصر مبادئ تولستوي الدينية والاجتماعية في الوصايا الخمس الآتية:
أولاً - أحب الله من كل نفسك وأحب قريبك كذلك. لا تهن أحداً، واجتهد بان لا تحرض أحداً على فعل الشر، لأن الشر يتولد من الشر.
ثانياً - لا تغازل النساء، ولا تهجر المرأة التي اتحدت بها، لأن هجر النساء وتغييرهن يحدثان الفساد في العالم.
ثالثاً - لا تحلف بشيء ولا تعد بشيء، لأن الإنسان بكليته تحت سلطة الله، والناس لا يجنحون إلى الأقسام إلا مدفوعين إليها بالأعمال والنيات الشريرة.
رابعاً - لا تقاوم الشر بالشر، واحتمل الإهانة واعمل أكثر مما يطلب منك الناس. لا تحاكم أحداً ولا تدفع نفسك للمحاكمة. والإنسان إذا مال إلى الانتقام فإنه ليعلم الناس أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله.
خامساً - لا تفرق بين موانيك والغرباء، لأن جميع الناس من مصدر واحد.
وقد شحن الكونت تولستوي مؤلفاته بالنصائح والحكم الفلسفية وكلها على منتهى السذاجة، وله الفضل على سائر الفلاسفة - كما قدمنا - بأنه يعمل بما يعلم وإليك شيئاً من أقواله:
لا تعم المساواة في العالم، ولا ينقطع الحسد من بين الناس، ولا
تزول المنافسة وتفقد البغضاء، إلا إذا سعى كل بنفسه لتحصيل ما يقوم باوده. فيجب على كل واحد أن يقبل على الشغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه، دون أن يعتمد فيها على غيره. فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس، لوجدنا أن أصلحا الحاجة، ومصدرها الفاقة. وأما الشرور والآثام والفجور والفساد فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وإملاء البطون بالمآكل التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات.
إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات، وأن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل.
قال تولستوي مخاطباً ابن المدن المتنعم في رخاء العيش المتناهي في بذخ الحياة: قم واخرج من خدرك وطف في المدينة، وقف إلى جانب أولئك الذين يطعمون الجياع ويكسون العراة، ولا تخف. وانتظم في سلكهم وسر معهم كتفاً إلى كتف، واعمل بيديك الرخيصتين الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل أرفق به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى، فلا شد في أنك ترى نفسك أسعد حالاً مما كنت عليه، وتجد انقلاباً في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة.