الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 3
- بتاريخ: 1 - 5 - 1910
نطاق العالم البحري
السويس وبناما
هي العقول السامية المدارك ترينا في عالم الاختراعات ما تزدهي به البلاد ويستفيد منه العباد، فترقى بالحضارة والهيئة الاجتماعية في مراقي التقدم والفلاح. . . وقد تجلت تلك العقول البعيدة المرامي في أفراد جاؤوا الوجود في أحقاب مختلفة وخصوا ما أتاهم الله من ثقوب الفهم ومضاء الفكر بالتنقيب عن أسرار الطبيعة واستخدام قواها، وتوصلوا بثباتهم إلى ما عاد على المجتمع الإنساني بالخير الجزيل.
من أعظم ما حققه الإنسان في الأزمنة الحديثة توسيع نطاق فن البحارة وتمهيد سبل النجارة في وجه أربابها. فاقتصد الوقت الثمين وقرب الأمكنة البعيدة: شاد المرافئ، ترغم أنف الماء الثائر، ورفع المنائر تهدي حائرات المراكب. فكم من برزخ نفضه، وخليج سده، وغدير أيبسه. ولم يكن ما في ذلك من المصاعب ليثبط منه العزائم. فهذه قناة السويس
تكفل لفردينان ده لسبس ما كفلت أهرام مصر لمن بناها: اسماً ماجداً وذكراً خالداً. وهذه ترعة بناما التي يتم فتحها في القريب من الزمن سيكون لها شأن يذكر في تقريب المسافات وتسهيل الموصلات.
السويس وبناما بابا أربعة بحور عظام وهما كمنطقة تحدق بالكرة الأرضية عن طريقهما تمر تجارة المعمور وإليهما ومنهما مصيرها ومنفذها. وسوف يبقيان الطريق الكبرى اللاحبة بين آسيا وأوروبا مادام العالم السياسي على ما هو وبقيت الأرض على شكلها.
عرف القراء مجمل ما يتعلق بقناة السويس بعد تمحيص هذه المسألة في الجمعية العمومية وقيام مصر من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها للدفاع عن استقلال قناتها، وإننا لذاكرون هنا فقط شيئاً عن ترعة بناما فنقول:
بناما عبارة عن برزخ يعترض ني الأوقيانوسين الاتلانتكي والباسفيكي، واقع بني كولومبيا وكوستاريكا، جامع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وقف عقبة في وجه التجارة ويبلغ عرضه ستة وخمسين كيلومتراً بين مدينة كولون ومدينة بناما. والأولى في 22 َ و9 عرضاً و15َ و82ْ طولاً والثانية في 56َ و8ْ عرضاً و30َ و79ْ طولاً.
وفتح هذا البرزخ - أي فصل العالم الجديد إلى شطرين - مشروع خطير جليل الفوائد.
ولقد عنّ هذا الفكر لعلماء أعلام وحكام عظام وخطر لعقول نيرة ومدارك سامية أن يبرزوه إلى حيز العمل. فنشرته الأقلام والألسنة فكبّر سامعوه وقالوا: هذا من باب المستحيل. . .
ومنذ القرن السادس عشر دار في خلد أحد البحارة نقض هذا البرزخ فاقترح ذلك على الحكومة الإسبانية. وفي هاتيك المدة أيضاً حدث الهمة بالسيد فرنندو كورتز فاتح البلاد المكسيكية إلى القيام بهذا الأمر الخطير فألف لجنة من المهندسين وعهد إليهم تخطيط رسم ترعة تجمع بين الأوقيانوسين. وضع الرسوم على صفحات القرطاس ولم يلاق في ذاك العهد من يقوم بها فيضعها قيد الفعل. فتصرم قرنان كاملان وفتح هذه في عالم الرسوم، حتى أواخر القرن الثامن عشر إذ أوفد الملك كارلس الثالث لجنة ترود تلك لأماكن وتنظر في الأمر، فتضاربت الآراء وتفرقت الكلمة ولم ينجم عن ذلك نتيجة تذكر. وبعد سنين قلائل عهد ذلك المشروع إلى مسيو ده همبلدت فلم يصب نجاحاً.
وفي السنة الخامسة والعشرين بعد الثمانمئة والألف نال البارون تييري من بوليفار محرر جمهورية كولومبيا امتيازاً يخوله حفر ترعة بناما، فعمل ولم يفلح ومن مشاهير الرجال الذين بحثوا في هذا المشروع الإمبراطور نابليون الثالث. قيل أنه كان يقضي ساعات طوالاً وهو في قلعة هام، يعمل النظر، ويشغل الفكر في التنقيب عن هذه القضية.
ومما تقدم يرى القارئ أن هذا المشروع قد بدا لعقول كثيرة، على أن المتمولين أصحاب الذهب لم يكونوا يعدون تحقيقه إلا من باب الأوهام وخطرات البال. ولذلك لم تؤلف قط شركة لهذا الغرض، ولم تقم عصابة مالية للأخذ بناصر هؤلاء العلماء وبسط يد المساعدة لهم وكان الأمريكان أنفسهم، أصحاب الجد والنشاط، لا ينظرون إلى هذا المسعى إلا بعين الهزء
والسخرية، حتى رأوا النجاح مكللاً أتعاب ذاك الهمام المقدام فاتح قناة السويس، فعقدوا حينذاك لجنة من حذاق المهندسين لينظروا في الأمر ولكنهم فشلوا في مسعاهم ولم يفوزوا بالمرام. وقام ده لسبس يحاول أن يحقق في بناما ما حققه في السويس، فأرسل العالمين أرمان ركلو ولوسيان ويز سنة 1879، فتفقدا تلك الحزون والبطاح ووضعا الرسوم اللازمة، ونالا الامتياز من جمهورية كولومبيا، وألف هو الشركة المالية بعد أن قدر المبالغ اللازمة ب 658 مليون فرنك. فتلاعبت الأيدي بالمال وكانت هذه الحادثة من أهم المسائل السياسية التي هزت فرنسا في النصف الأخير من القرن الغابر.
وجل ما نتج عن كل هذه الأبحاث مد خط حديدي بين كولون وبناما في سنة 1855.
ومن أكبر الأسباب التي حالت دون فتح ترعة بناما، ميل الأمريكان إلى ترعة أخرى مارة ببحيرة نيكاراغوا ونهر سان جوان، وذلك لقتل المشروع الفرنسوي في مهده، سيما وقد توهم القوم بادئ بدء أن حفر هذه الترعة أقل صعوبة من نقض برزخ بناما. وظل الأمريكان على هذا الزعم حتى سنة 1903، حيث عادوا إلى الفكرة الأولى بفضل مساعي العالم فيليب بونوفيلا ومستر مرقس حنا أحد النواب، فظهر للجميع عدم صلاحية نيكاراغوا لجمع الأوقيانوسين نظراً لقوة النهر وعلو الأراضي عن سطح البحر وكثرة المواد البركانية في تلك النواحي. فوضع الأمريكان يدهم على هذا المشروع وأخذوا على أنفسهم تحقيقه بعد التسويف والتأجيل
وهو ناجز عن قريب فيشطر أمريكا إلى شطرين، هذا وكل يعرف أن أكثر رواج التجارة بين آسيا مهد التمدن القديم وأوروبا مهد التمدن الحديث، ومن هنا تتأتى أهمية الطرق الجامعة بين القارتين.
ولبيان أهمية ترعة بناما لابد لنا من إلقاء نظرة إلى الطريق القديمة والمقابلة بينها وبين طريق الغد فتتضح لنا فوائدها التجارية والسياسية معاً لأن التجارة أصبحت اليوم محور السياسة وأساس المعاهدات والمحالفات. قال أحد كبار السياسيين: لا تحارب الدول ولا تسالم بعضها بعضاً إلا في سبيل التجارة، فالتجارة سلطانه الدنيا.
1 -
الطريق عن البرزخ الأفريقي: أقدم طريق من أوروبا إلى آسيا طريق البرزخ (الأفريقي) أعني مصر فالنيل فالبحر الأحمر فالأوقيانس الهندي، وهذا ما رفع شأن الإسكندرية ووفر غناها وجعل فيما بعد للبندقية أيضاً نصيباً عظيماً من الثروة. وجد بين أوراق كتبها نابوليون بين سنة 1786 و1793 ما يلي تعريبه: إن مركز التجارة وسوق رواجها غنما هي الإسكندرية التي شاهدها الإسكندر على النيل وهكذا عمرت مصر على عهد البطالة فقامت مدينة برنيقه على شواطئ البحر الأحمر، وكانت تجارة بلاد فارس والهند مع إيطاليا وأوروبا عن طريق البحر الأحمر فالنيل. . بيد أن هذه الطريق كانت من الصعوبة على جانب عظيم، سيما وأنها بحرية وبرية، فكانت تستغرق وقتاً طويلاً ومصروفاً جزيلاً، لنقل البضائع من البحر إلى البر ومن البر إلى البحر.
2 -
الطريق عن رأس الرجاء الصالح: وفي سنة 1498 جاز فسكو
ده غاما رأس الرجاء
الصالح واختط طريقاً بحرية محضة إلى الموانئ الآسيوية فتبعته السفن التجارية وهجرت طريق البحر المتوسط فتأخرت أحوال الإسكندرية والبندقية.
قال فولتير في معرض كلامه عن الآداب: إن رحلة فسكو ده غاما إلى مملكة كالكوتا في الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح قد غيرت تجارة العالم القديم تغييراً تاماً. وكانت الإسكندرية محور التجارة ورابطة الأمم على عهد البطالة والرومان والعرب بل كانت البلاد المصرية المستودع الوحيد بين الأصقاع الأوروبية والأمصار الآسيوية ومنها كانت البندقية تستجلب محاصيل الحبوب لأوروبا فاغتنت وازدهى فيها العمران ولولا اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح لكانت البندقية الآن من أعظم الدول.
3 -
الطريق عن ترعة السويس: بيد أنه في أواسط القرن التاسع عشر عادت الطريق إلى الهند من حيث كانت، وذلك بنقض البرزخ الأفريقي وجمع البحر المتوسط والبحر الأحمر. . تلك أمنية طالما سعى وراءها الفراعنة والبطالسة وأشار إليها بونابرت فحققها ده لسبس، وأعاد إلى مصر مجدها الغابر وبهاءها السابق إذ عادت كذي قبل الطريق بين آسيا وأوروبا.
4 -
الطريق عن البرزخ الأمريكي (بناما): هذا وفي سنة 1492 دعت ناهضة النشاط بكرستوف كولمب إلى السير إلى الهند عن طريق جديدة. وكان قد ظن - ونعم الظن - أنه نظراً لكروية الأرض لابد من أن يصل إلى الهند عن طريق ثانية مواجهة للطريق الأولى فبدلاً عن السفر في البحر المتوسط والأوقيانوس الهندي حاول أن يسافر في