الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجامع الأموي
هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشرا ألفاً من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتبا لتواريخ فشرع في بنائه وبلغت الغاية في
التأنق فيه وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجاراً وفرعت أغصاناً منظومة بالفصوص ببدايع الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف. فجاء يغشي العيون وميضاً وبصيصاً. وكان مبلغ النفقة فيه أحد عشر ألف دينار ومئتي ألف دينار.
ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مئتا ألف خطوة وهما ثلاث مئة ذراع. وذرعه في السعة من القبلة إلى الشمال مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرين مرجعاً. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق إلى الغرب، سعة كل بلاطة منها ثماني عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف. وقد قامت على ثمانية وستين عموداً منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها. واثنتان مرخمة ملصقة بالجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة.
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وهي عظيمة الاستدارة قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن فإذا استقبلتها أبصرت منظراً رائعاً ومرأى هائلاً، يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاد على يمين والنصف الثاني على شمال جناحيه، وسعة هذا الغراب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء
منيفة على كل علو كأنها معلقة في الجو. والجامع مائل إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون.
والبلاد المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة
أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها. وفيه مجتمع أهل البلد وهو متفرجهم ومتنزههم كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد. فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرا. ولا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون.
وفي الصحن ثلاث قباب إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة كأنها الروضة حسناً وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال إنها كانت مخزناً لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير وفي وسطه أنبوب من الصفر يرمي الماء علواً فيرتفع وينثني كأنه قضيب من لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافاً واستحساناً، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة.
وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، وأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة صنعة، يتقد ذهباً كلها وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجدارة تحفها سوبريات مفتولات فتل الإسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها، وبعضها أحمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها كله عظيم لا يلحق وصف ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر.
وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من
مصاحف عثمان (رض) وهو الذي وجه به إلى الشام. وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.
وعن يمين الخارج من باب جيرون، في جدار البلاط الذي أمامه، غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان من صفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر، قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان
عنقيهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر. ولا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك في أن القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشر دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وأفاض على الدائرة شعاعاً فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس الميقاتة. . .
ابن جبير، زار دمشق سنة 580 هجري
قال النابغة الذبياني يمدح النعمان
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ولا أحاشي: ولا أستثني -وأحددها عن الفند: صنها عن الظلم -خيس: ذلل -الصفاح: حجارة عراض رقيقة -العمد: السواري من الرخام وهي الأساطين وأحدها أسطوانة