الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حدائق العرب
ننشر في هذا الباب صفحات مطوية لمشاهير الكتاب الغابرين. لأن في كتبهم ومخطوطاتهم التي نسجت عليها عناكب الأيام كنوزاً نحن في أشد الحاجة إليها. وها نحن نورد اليوم ملخص فصل كتبه فارس الشدياق منذ 55 سنة عن الألقاب والمغالاة في الكتابة. وقلما قرأنا كاتباً عربياً فيه ملكة الملاحظة - التي يفاخر بها الإفرنج ويقولون إنها سر الإجادة في الإنشاء - أقوى مما هي في الشدياق ولا نتعرض لمبادئ الرجل وأطواره بل نورد شيئاً من قلمه لبيان أسلوبه الكتابي. وهو مأخوذ من كتابه الساق على الساق المطبوع في باريس على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي.
وصل الفارياق - وهو اسم مستعار لنفس المؤلف - إلى مصر فهداه أحد الظرفاء إلى شاعر مصري له وجاهة ونباهة عند جميع الأعيان. وهنا نترك الكلام للمؤلف:
الألقاب والمغالاة
(قال الظريف) نصحي لك أن تكتب كتاباً إلى هذا العلامة وتلتمس منه فيما تطري به عليه مواجهته. وإذا تكرم بذلك فاذكر له حينئذ ما أنت تعاينه واستنجد به. فلا بد من أن يجيبك، فإنه رجل متصف بمكارم الأخلاق ويحب دغدغة الافتخار. ولاسيما أنه يرغب في مجالسة ذوي الأدب وتيسير أسباب معيشتهم. فتلطف إليه في المقال، وأنا ضامن لك أن تفوز منه بالآمال. فشكره الفارياق على نصحه ورجع إلى محله راضياً مستبشراً. فلما جن الليل أخذ القلم والقرطاس وكتب ما نصه:
أهدي سلاماً لو حمله النسيم لعطر الآفاق، ولو جعل للبدر هالة لما اعتراه المحاق، ولو مزجت به الصهباء لما أعقبت شربها صداعاً، ولو استفه مريض أو لعقه لما لقي برحاء أوجاعاً، ولو علق على شجر لزهت في الحال أوراقها ولو في الخريف، ولو سقيه الروض لأنبت من كل زهر بهيج طريف، ولو جعل على أوتار عود لأطربت دون عازف، ولو تغنى به في مجلس لأغنى عن المشموم والمعازف، ولو علق في الآذان لكان شنوفاً، ولو صقل به سيف كليل لجاء رهيفاً، ولو مثل لكان حدائق ورياضً، وسلسبيلاً ومحاضاً، ولو نيط بالعمائم لأغنى عن التمائم، ول تحتم به ولهان لا جزأه مجزأ السلوان، ولو كتب على رجام لألهى الثاكل عن النواح، أو على خصر هيفاء لقام لها مقام الوشاح، أو على أنف
مزكوم لما أحوجه إلى السعوط، أو على ساق أعرج لكان له من قفزه سبق وفروط، أو على لسان أبكم لانحلت عقدته، أو على كف بخيل لهان عليه في البذل ذهبه وفضته. . . وتحيات فاخرة، ذكية عاطرة، أرق من النسيم، وأشهى من العافية على قلب السقيم، وأجلى للعين من الأثمد، وأغلى للناقد من العسجد، وأصفى من الماء الزلال، واعلق بالقلب من أمل الوصال. . . وأزهر من نور الصباح، وأزهى من نور الأقاح، وأثمن من الجوهر النفيس، وأعز عند البستي من التجنيس، وعند أبي العتاهية من الزهديات، وعند أبي نواس من الخمريات، وعند الفرزدق من الفخريات، وعند جرير من الغزليات، وعند أبي تمام من الحكم، وعند المتنبي من جزل الكلم تُهدى إلى الجناب المكرم، المقام المحترم، ملاذ الملهوفين، مستغاث
المضيعين، منهل القاصدين، مورد الطالبين. . . إلخ.
(ثم ذكر حاجته إليه). . . قال الفارياق:
فلما بلغت الرسالة إلى المذكور وطالع ما في شرح السلام من التشابيه المكلفة، لم يتمالك أن ضحك منها وقهقه، وقال لبعض جلسائه ممن ألم بالأدب: سبحان الله قد رأيت أكثر الكتاب يتهوسون في إهداء السلام والتحيات إلى المخاطب كأنما هم مهدون إليه عرش بلقيس أو خاتم سيدنا سليمان. فتراهم يشبهونه بما ليس يشبهه، ويغرقونه في الإغراق، ويغلونه في الغلو، حتى يأتي مبلولاً محروقاً. . . وما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة، وبنظم الفقر المتماثلة في المعنى. مع أن العالم يتأتى له أن يبدي علمه بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ بليغة المعنى. وهذه ألف ومئتا سنة قد مضت ومازلنا نرى زيداً يلوك ما لفظه عمرو، وعمراً يمضغ ما قاله زيد، وقد سرى هذا الداء في جميع الكتاب.
(ثم استطرد الكاتب بعد كلام بمعنى ما تقدم إلى ذكر الألقاب بطريقة التهكمية المعتادة قال:)
حد اللقب عند المشرقيين أنه هينة ناتئة، أو زنمة أو علاوة زائدة متدلدلة تناط بكونية الإنسان، وعليه قول صاحب القاموس العلاقي الألقاب لأنها تعلق على الناس. وعند الغربيين أي عند الإفرنج أنه جليدة تكوّر في الجسم. وشرح ذلك أن الهنة يمكن قطعها واستئصالها مع السهولة. وكذا الزنمة وكذا العلاوة يمكن ركسها وقلبها. فأما الجليدة فلا
يمكن فصلها عن الجسم إلا بإيصال الضرر إلى صاحبه. وحاشية ذلك، إذ الشرح لابد له
من حاشية، إن الزنمة عند أهل الشرق غير موروثة، والجليدة عند الإفرنج متوارثة كابراً عن صاغر. مثال ذلك لقب الباشا والبيك والأفندي والآغا بل الملك إنما هو محصور في ذات الملقب به فلا ينطلق منه إلى ولده، فقد يمكن أن يكون ابن الوزير أو املك كاتباً أو نوتياً. أما عند الإفرنج فلا يصح أن يقال لابن المركيز إلا مركيز. . .
واصل الزنمة والجليدة في الغالب أكال يحدث في ذوي الأمر والنهي، لهيجان الدم عليهم. فلا يمكن تسكين هذا الهيجان وحك ذلك الأكال إلا بإحداث الهنة أو الجليدة. والغرض من كل ذلك انفراد شخص عن غيره بصفة ما.
. . . وأعلم أن الخواجا والمعلم والشيخ ليست ألقاباً معدودة في الهنات ولا في الجليدات. . . إنما هي خرقة تستر عورة الاسم الذي أطلق على المسمى، وهي غير مخيطة فيه ولا مكفوفة، ولا مسرجة ولا ملفوفة. بل هي كالبطاقة شدت إلى لابسها ليعرف بها سعره. إلا أنه كثيراً ما يقع الغلط في إلصاقها بمن ليس بينه وبينها من علاقة. . .
فارس الشدياق