الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملكة الصحراء
إذا سرت في بادية الشام وقاربت الوصول إلى حاشية منها، تظهر لك عن بعد شاسع من خلال الحجب الهوائية الشفافة نقطة سوداء في الشمال الغربي من حمص وحماه، فتنتعش نفسك وتشعر بقرب آثار الحياة، بعد أن تكون سرت أياماً في ظل الموت محاطاً بسكون الطبيعة الراقدة. ولا تكاد تتقدم قليلاً إلى الأمام حتى تنقشع الحجب شيئاً فتتسع تلك النقطة وتنجلي بعد حين عن دائرة خضراء غير منتظمة، ولا تزال الدائرة آخذة بالوضوح والانتشار ذات اليمين وذات اليسار كلما
أسرعت الخطى، إلى أن تشرف عليها وتقف برهة مستنشقاً الصعداء فإذا بك أمام أثر من آثار الجبابرة الذين كان يتغنى بمدحهم شعراء اليونان. ترى جبلاً منتصباً على طرق البادية كسور منيع أقامته يد الطبيعة هناك لصد الغارات عن مملكة زنوبيا يتدفق من جوفه نبع غزير تنساب مياهه الكبريتية في بقعة خضراء منبسطة أمام الجبل بين بساتين غضة حافلة بأشجار الفاكهة على اختلاف أنواعها وحقول واسعة زرعت بأنواع الحبوب ومروج خضراء تتخللها وهي مرعى خصيب تغشاه قطعان الماعز والضان. تقف وتسرح النظر حيناً في تلك البقعة الجميلة، فتتمثل لك الطبيعة ضاحكة باسمة الثغر فتؤنس وحشتك وتنفس كربتك وتنسيك هذه الابتسامة اللطيفة من عروس البادية كلما لقيته قبل وصولك إليها ومصافحتك لها من عبوسة واكفهرار في باديتها القاحلة الجرداء. وفي وسط هذه البقعة الجميلة ركام من الخرابات، تتخللها أبنية فخيمة متهدمة آية في الإبداع وأعمدة ضخمة متناسقة تناطح السحب، ممتدة على مسافة بعيدة كصف من الجبابرة أقامتهم ملكة المشرق حراساً على باب باديتها أو كأنما هي أيدٍ مدتها إليك ملكة الصحراء من وراء حجب التاريخ لتصافح ضيفاً كريماً جاء يحييها في مقر ملكها. فتقف حائراً مبهوتاً وترى مجالي العظمة والجلال بادية على تلك الآثار الضخمة. فتدرك أنها آثار قوة هائلة حلت في تلك البقعة من البادية ردحاً من الدهر، فدانت لها الممالك وانقادت إليها الشعوب.
تلك آثار تدمر موطن زنوبيا، ملكة المشرق وعدوة الرومان، ومنقذة سوريا من رق العبودية،. . . وأهم آثار تدمر واقعة في سفح ربوة ممتدة
من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي على مسافة ثلاثة فراسخ، وهي مؤلفة من آثار هيكل عظيم جعله العرب في القرون الوسطى قلعة حصينة، وإلى جوانبها كثير من آثار الهياكل والقصور الفخيمة، بينها أنقاض
من عهدين مختلفين: بعضها سابق لعهد بخت نصر وهي ركام من الأبنية المتهدمة المبعثرة والبعض يرتقي عهده إلى القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح. ومعظمها قائم إلى اليوم وليس فيها كتابة ما سابقة لعهد المسيح أو لاحقة لعهد ديوكليسيانوس. ومن هذه الآثار أعمدة تفوق الحصر لا يقل علو الواحد منها عن 15 متراً ووراءها قصور متهدمة وأبواب وسراديب وأروقة ومماشٍ وأقواس. والأرض مغشاة بأحجار وأعمدة محطمة على أكثرها نقوش بديعة. وفي الجهة الغربية من الهيكل الكبير كثير من المدافن وجد على بعضها كتابات فينيقية ويونانية. وفي السهل الواقع جنوبي النبع مدافن أخرى مقفلة بأحجار ضخمة لم تستخرج كنوزها إلى الآن. وفي سفح الجبل كثير من هذه المدافن أهمها وأفخمها ما كان واقعاً على الضفة اليمنى من النهر في سفح جبل بلقيس أو ملكة سبأ ومن آثار تدمر سور يستنيانوس وهو سور ضخم تتخلله أبراج شامخة، شيد أكثرها الفاتح الروماني لصد إغارات العرب عن المدينة. وعلى قمة الجبل حصن قديم يعرف بقلعة ابن معن وهو من عهد فخر الدين المعني الأمير اللبناني المشهور الذي بسط سلطته على سائر بلاد الشام، وهو مشرف على تدمر وضواحيها فتراها منبسطة أمامك بهياكلها وقصورها وما بقي من أعمدتها وترى هيكل الشمس قائماً في وسطها كقلعة عظيمة. وفي الجهة الغربية منه الآكام القائمة
عليها مدافن الملوك والعظماء تنبسط أمامها بادية الشام التي تحدها على بعد شاسع جبال متقطعة تتخللها معابر القوال التي كانت تسير على عهد قريب في تلك الفلوات بين دمشق وبغداد. وبالإجمال ليس بين المدن القديمة مدينة جامعة بين كثرة الآثار القديمة وضخامة الأبنية وفخامتها ودقة نقوشها وأهميتها التاريخية كمدينة تدمر إلا مدينة بعلبك فهما أثران يعدان من أعجب آثار الأقدمين في سائر الأقطار قاطبة.
وكان لتدمر في الأعصر الخالية شأن خطير وقد كان وقوعها على طريق القوافل التي كانت تسير بين دمشق وبغداد من أهم الأسباب التي مهدت لها السبيل إلى بلوغها شأواً بعيداً من الحضارة والعمران فكانت مركزاً تجارياً متوسطاً بين أوروبا وداخلية آسيا تشحن إليها المنسوجات الحريرية من الهند ومحصولات الأرض من البلاد الآسيوية المجاورة لها فترسل منها إلى أوروبا. أما قبل المسيح فلم يكن لها من الشأن ما كان للمدن السورية الأخرى ولم يرد ذكرها في التوراة بين تلك المدن وجل ما ذكر في سفر الملوك وسفر
الأخبار أن سليمان الحكيم بنى تدمر وشيد فيها هيكلاً عظيماً لبعال وسماها تدمر أي مدينة النخل لكثرة ما كان هناك منه.
وفي أيام السلوقيين خلفاء الإسكندر كانت خط الاتصال بين إنطاكية وسلوقية (اللاذقية) عاصمتي مملكتهم وسميت لعهدهم بلميرا مترجمة عن اسمها الأصلي. وفي أيام الرومانيين أزهرت بمتاجرها وصناعاتها وضاهت أعظم المدن السورية ولاسيما في القرن الثالث للمسيح إذ كان يحكمها أودينات الذي أدى خدماً جليلة للرومانيين
في حروبهم ضد سابور ملك الفرس. فقهره في عدة مواقع دموية جرت له معه ورده إلى ما وراء الفرات. فمنحه الرومانيون لقب ملك مكافأة له على ولائه وشجاعته واعترفوا له بحقوق الملكية. وكانت زوجته زنوبيا (وتعرف عن العرب بزبيدة) من أرقى بنات جنسها في ذلك العصر وكان لها اليد الطول في رفع منزلته عند الورمان بما أوتيت من الحنكة والدهاء السياسي. ولم يكن يعرض له أمر إلا شاورها به ووقف على رأيها فيه. فتضافرا على رفع شأن المملكة. ومات أودينات سنة 367م. مقتولاً بيد أحد كتبة سره تاركاً الحكم لزوجته زنوبيا. وكانت هذه الملكة تدعي أنها من نسل كيلوباترا ملكة مصر. وقيل أنها بنت أمير عربي. وكانت تتكلم لغة وطنها فينيقيا وتجيد اللغة القبطية واليونانية واللاتينية. فأدخلت المدنية اليونانية والرومانية إلى عاصمة ملكها بإنشائها مدارس كبرى كان يؤمها طلاب العلوم بحيث لم يكد يمر الدور الأول من حكمها حتى كانت تدمر من أرقى مدن العالم.
ولما نودي بها ملكة على تدمر منحها مجلس الشيوخ الروماني لقب أوغسطس وانتحلت لقلب ملكة تدمر وملكة المشرق ولم يكد يستتب لها الأمر حتى طمعت بخلع نير الرومانيين فجيشت الجيوش وأخذت تطاردهم من آسيا وكانت ذات جرأة غريبة وإقدام عجيب، تسير إلى الحرب حتى ملكت سورية بأكملها من أقاصي بلاد الشام حتى بلاد فارس. وقد زحفت على مصر واستحوذت على قسم منها واستولت أيضاً على أقاليم أخرى من الإمبراطورية الرومانية الضخمة وحالفت الفرس، فحسدها القياصرة والملوك، وأشفقوا منها على
ممالكهم أن تضمها إلى مملكتها الجديدة وظلوا يراقبون حركاتها بعين الحذر وهم مترددون بين محاربتها وموالاتها إلى أن تبوأ أورليانوس العرش فحصر همه في إخضاعها. وسار بجيوشه إلى المشرق وقاتلها في عدة مواقع، أشهرها موقعتان في سهل إنطاكية وسهول
حمص استظهر فيها عليها، وبلغ إلى تدمر فحاصرها وأشار على ملكتها بالتسليم فأبت فشدد الحصار على المدينة وسلم أهلها سنة 272. أما زنوبيا فركبت هجيناً تريد بلاد فارس فقبض عليها فرسان الرومانيين عند باب المدينة، وأخذها أورليانوس أسيرة إلى رومية وعاملها معاملة ملكة عظيمة الشأن مفاخراً بالنصر الذي أحرزه على أكبر ملكة كانت تهتز لها أعصاب الإمبراطورية الرومانية فأعد لها قصراً فخيماً في مدينة تيفولي بالقرب من رومية فقضت حياتها فيه تحف بها العظمة والجلال.
وقد أجمع المؤرخون على أنها كانت فتانة فائقة الجمال شديدة النزوع إلى الحروب والفتوحات، واشتهرت بحقها وسمو مداركها وشدة بأسا حتى جرت أوصافها مجرى الأمثال في الأعصر الخالية. وفي لبنان آثار عديدة منسوبة إلى زبيدة منها أقنية الماء الممتدة من نهر بيروت إلى المدينة ومن نهر إبراهيم إلى جبيل ومن نهر قديشا إلى كورة طرابلس.
ثم قام ديوكلتيانوس ويستنيانوس فحاولا إعادة تدمر إلى مجدها السالف فأخفق سعيهما: ومذ ضربها أورليانوس تلك الضربة النجلاء قضى على شهرتها وتاريخها قضاءً مبرماً فأخذت من ذلك الحين بالانحطاط إلى أن باتت أثراً بعد عين وغاصت في لجة عميقة من النسيان قروناً طوالاً كانت
فيها قرية حقيرة لا شأن لها يعرفها علماء الجغرافية بكونها حداً لبادية الشام في الشمال الغربي من حمص وحماه.
وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن معظم سكان تدمر وضواحيها كان في أيام زنوبيا مؤلفاً من العرب بدليل أن أكثر الأسماء الواردة في الكتابات اليونانية القديمة التي وجدت في تدمر عربية محضة ومثلها الكتابات التي وجدوها في حوران فإنها عربية اللفظ والمعنى وإن تكن مكتوبة بأحرف يونانية. وفي بعض التواريخ أن تدمر ظلت في أمن ن غزوات العرب المسلمين دهراً طويلاً ولكنها قاست الشدائد في حروب الأمويين والعباسيين سنة 745م. وما يليها. وقد زارها العالم الفرنساوي فولني سنة 1758 فوصفها أبدع وصف ومزق ما كان مسدولاً على تاريخها من الحجب الكثيفة وألفت وصفه لها أنظار العلماء والسياح فطفقوا يتقاطرون إليها من كل حدب وصوب لمشاهدة آثارها العجيبة.
فحبذا لو كانت حكومتنا الدستورية الجديدة تتمثل بالحكومات الأوروبية فتصرف بعض عنايتها إلى الآثار القديمة الحافلة بها البلاد السورية فإن في جمع هذه الآثار في متاحف
خصوصية من الفوائد المادية ما لا يقل قيمة في اعتبار الأمم المتمدنة عما في ذلك من عبر التاريخ البالغة والفوائد الأدبية للبلاد التي تشتمل على آثار جليلة كآثار تدمر وبعلبك ودمشق والقدس وغيرها مما يعرض لنا كل يوم أن نورده مثلاً من الأمثلة العديدة على بلوغ التمدن الشرقي أقصى درجات الكمال في زمن كانت أوروبا تتخبط في دياجي الجهل والانحطاط.
- بولس مسعد