الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حج الخديوي عباس حلمي وقصائد المدح فيه
حج سمو خديوي مصر في هذا العام إلى البيت الحرام وعاد محفوفاً باليمن والبركات. وقد تبارت قرائح شعرائنا في وداعه واستقباله. فكان موسم شعر ذكرنا سوق عكاظ. ولا جدال في أن خير ما قيل في حج أمير مصر قصيدة سعادة أحمد بك شوقي أمير الشعر. وقصيدة حضرة حافظ أفندي إبراهيم نابغة مصر. وقد جئنا على بعض ما فيها من الدرر الغوالي في ما يأتي من المقال:
شوقي والبوصيري
البردة وطرازها
قصيدة البوصيري في مدح نبي الإسلام من خير ما جادت به قرائح الشعراء معنى ومبنى. وقد توالت الأجيال والقرون على هذه البدرة الثمينة، فلم تبل جدتها، ولم تذهب بهجتها، بل أكسبتها الأيام جلال العتق والقدم ولقد شاء احمد بك شوقي أن يُلبسها طرازاً معلماً فنسج طراز البردة بمناسبة عودة سمو أمير مصر من حجه المبرور. ولقد كان ذلك يعد - تهجماً - من أي شاعر كان إلا من أمير الشعر. فهو ذو القريحة
الوقادة والنفس الطويل، القادر على مجاراة فرسان الشعر في أي ميدان كان، فجاءت قصيدته خير طراز يليق أن توشى به تلك البردة البديعة كما سيرى القارئ من المقارنة بين بعض أبيات هذه وتلك. وقد كان بودنا إثبات القصيدتين برمتهما لولا ضيق المقام.
لم تخف على شوقي بك وعورة هذا المسلك فنصل قائلاً:
المادحون وأرباب الهوى تبع
…
(لصاحب البردة) الفيحاء ذي القدم
الله يشهد أني لا أعارضه
…
من ذا يعارض صوب العارض العرم؟
على أن شوقي - رغم هذا التنصل الذي قضى به حسن الذوق - قد عارض سلفه ولم يقصر عنه في أكثر المواقف:
قال البوصيري في الآيات القرآنية:
لو ناسبت قدره آياته عظماً
…
أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
وكل آيٍّ أتى الرسل الكرام بها
…
فإنما اتصلت من نوره بهم
آيات حق من الرحمن محدثه
…
قديمة صفة الموصوف بالقدم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا
…
عن المعاد وعن عاد وعن إرم
وقال شوقي في مثل هذا المعنى:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت
…
وجئتنا (بحكيم) غير منصرم
آياته كلما طال الزمان بها
…
يزينهن جلال العتق والقدم
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة
…
(حديثك) الشهد عند الذائق الفهم
حلّيت من عطل جيد الزمان به
…
من كل منتثر في حسن منتظم
بكل قولٍ كريم أنت قائله
…
تحيي القلوب ويحيي ميت الهمم
شريعة لك فجرت العقول بها
…
عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها
…
كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
وجاء في البردة عن وصف العالم عند ظهور الدعوة إلى الإسلام:
أبان مولده عن طيب عنصره=يا طيب مبتدأ منه ومختتم
يوم تفرَّس فيه الفرس أنهم
…
قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى وهو منصدع
…
كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
وجاء في طراز البردة من بديع الوصف ما نأخذ منه:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم
…
إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جوراً مسخرة
…
لكل طاغية في الخلق محتكم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته
…
وقصير الروم من كبر أصم عمي
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم
…
كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه
…
والرسل في (المسجد الأقصى) على قدم
لما خطرت به التفوا بسيدهم
…
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
وهذا المعنى الأخير أخذه شوقي عن البوصيري حيث قال:
فإنه شمس فضلٍ هم كواكبها
…
يظهرن أنوارها للناس في الظلم
وصف صاحب البردة انقشاع غياهب الجهالة أمام أنوار الرسالة النبوية فقال:
كم جدلت كلمات الله من جدل
…
فيه وكم خصم البرهان من خصم
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
…
في الجاهلية والتأديب في اليتم
وتحداه صاحب الطراز فكمل المعنى بنفي الريب والظنون فقال:
والجهل موت فان أوتيت معجزة
…
فأبعث من الجهل أو فابعث من الرجم
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
…
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسفة
…
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفواً كل ذي حسب
…
تكفل السيف بالجهال والعمم
والشر أن تلقه بالخير ضقت به
…
ذرعاً وإن تلقه بالسيف ينحسم
وقال البوصيري واصفاً قتال الأعداء فأبدع في الترشيح في الاستعارة:
راعت قلوب العدة أنباء بعثته
…
كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم
…
ماذا رأى منهم في كل مصطدم
المصدري البيض حمراً بعد ما وردت
…
من العدى كل مسود من اللمم
والكاتبين بسمر الخط ما تركت
…
أقلامهم حرف جسم غير منعجم
وقال شوقي وقد أضاف إلى ذلك شيئاً من الفلسفة الاجتماعية:
علمتهم كل شيء يجهلون به
…
حتى القتال وما فيه من الذمم
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم
…
والحرب أس نظام الكون والأمم
لولاه لم نر للدولات في زمن
…
ما طال من عمد أو قرّ من دعم
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر
…
لولا القنابل لم تثلم ولم تصم
وجاء في البردة من مدح الخلفاء ما لا يقارب ما جاء على لسان صاحب الطراز حيث قال عن العرب وخلفائهم:
دع عنك روا وأثينا وما حوتا
…
كل اليواقيت في بغداد والتوم
وخل كسرى وإيواناً يدل به
…
هوى على أثر النيران والأيم
واترك رعمسيس إن الملك مظهره
…
في نهضة العدل لا في نهضة (الهرم)
دار الشرائع روما كلما ذكرت
…
(دار السلام) لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بياناً عند ملتئم
…
ولا حكتها قضاء عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها
…
على رشيد ومأمون ومعتصم
يطأطئ العلماء الهام أن نبسوا
…
من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
ويمطرون فما في الأرض من محل
…
ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
خلائف الله جلوا عن موزنة
…
فلا تقيسن أملاك الورى بهم
من في البرية (كالفاروق) معدلة
…
و (كابن عبد العزيز) الخاشع الحشم
3 و (كالإمام) إذا ما فض مزدحماً=بمدمع في مآقي القوم مزدحم
أو (كابن عفان) والقرآن في يده
…
يحنوا عليه كما تحنو على الفطم
إلى غير ذلك من التاريخ المسبوك بأجمل قالب شعري. . .
وأشار (محمد) البوصيري إلى اسمه فقال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
(محمداً) وهو أوفى الخلق بالذمم
وأشار (أحمد) شوقي إلى اسمه أيضاً فقال:
يا (أحمد) الخير لي جاه بتسميتي
…
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
وهناك أيضاً معانٍ كثيرة نسج عليها الشاعران أبياتاً شائقة كنا نود ذكرها لنبين مجرى الأفكار من جيل إلى جيل، ولكن في ما تقدم كفاية لاطلاع القراء على طريقة شاعر الأمس وشاعر اليوم، فيرون أن راز شوفي كان لبردة البوصيري كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم.
حافظ والفرزدق
قال حافظ من قصيدته مخاطباً أمير مصر:
تذكر زين العابدين وجده
…
وما كان من قول الفرزدق فيهما
وقول الفرزدق فيهما مشهور، ورواية الخبر، أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام. فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان من أجمل الناس وجهاً وأطيبهم أزجهاً. فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر. فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه. - فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
…
بجده أولياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا؟ بضائره
…
العرب تعرف من أنكرت والعجم
هذا هو قول الفرزدق في زين العابدين الذي يشير إليه حافظ والذي تذكره الركن عند استلام العباس له.
تمنى حافظ أن يسير في ركب أميره، فقال:
ولو أنني خيرت أن أرى
…
لعيسك وحدي حادياً مترنما
فلو فرضنا أن الزحام كان شديداً حتى تعذر على أمير مصر أن يصل إلى الحجر وكان حافظ قد سار أمامه حادياً مترنماً بقوله:
مشيت كعبة الدنيا إلى كعبة الهدى
…
يفيض جلال الملك والدين منهما
وفي الركب شمس أنجبت أنجب الورى
…
فتى الشرق مولانا الأمير المعظما
تسير إلى شمس الهدى في طفاوة
…
من العز تحدوها الزواهر أينما
لتنحى الناس لهذا الأمير وشاعره ولو كان فيهم صفوة العظماء وخيرة الأمراء.
وإذا قابلنا بين قصيدة حافظ وقصيدة الفرزدق فقد لا تفضل هذه تلك. وشاعر زين العابدين معروف بجزالة شعره وفخامته وشدة أسره حتى قدم على الشعراء الإسلاميين.
وصف الفرزدق ممدوحه بالكرم فقال:
كلتا يديه غياث عم نفعهما
…
يستوكفان ولا يعروهما عدم
ما قال (لا) قط إلا في تشهده
…
لولا التشهد كانت لاءه نعم
هم الأسود إذا ما أزمة أزمت
…
والأسد أسد الشرى والبأس محتم
وقال حافظ:
حللت بأكناف الجزيرة عابراً
…
فأنضرت واديها وكنت لها سما
دعوا بك واستسقوا فلبى دعاءهم
…
من الأفق هتان من المزن قد هما
رجعت وقد داويت بالجود فقرهم
…
وكنت لهم في موسم الحج موسما
وجدت وجادت ربة الطهر والتقى
…
على العام حتى أخصب العام منكما
فلم تبقيا فوق الجزيرة بائساً
…
ولم تتركا في ساحة البيت معدما
وإذا كان الفرزدق قد أجاد وأبدع فيم دح أجداد ممدوحه فإن حافظاً لم يقصر عنه في هذا الباب أيضاً حيث قال:
سليل ملوك يشهد الله أنهم
…
أقاموا عمود الدين لما تهدما
لئن بات المجد المؤثل مغرما
…
لقد كان (إبراهيم) بالمجد مغرما
وإن نام حب المكرمات فؤاده
…
لقد كان (إسماعيل) فيها متيما
وإن سكنت تقوى المهيمن قلبه
…
فقد كان منها قلب (توفيق) مفعما
وإن بات ناهضاً بمصر إلى الذرى
…
فمن جده الأعلى (علي) تعلما
الأمراء والشعراء
أمس واليوم
كان الأمراء قدماً يدعون أن كرهم علم الشعراء الشعر. وكان الشعراء يجيبون بان شعرهم علم الأمراء الكرم. ولقد يكون الفريقان صادقين فيما يقولان.
وكان الشعراء بالأمس يقفون على أبواب الملوك والعظماء لينشدوهم الشعر، ونراهم اليوم المقربين الجالسين في الصدر.
ولقد نظم شوقي بك هذا المعنى فأبدع وأجاد. ولشاعر أمير مصر ولع بشعر ابن هاني شاعر هارون الرشيد وقد أطلق على منزله في المطرية اسم كرمة ابن هاني وكان هذا المنزل مزداناً بأبهج الزينات ليلة عودة سمو الخديوي من الحج فاتفق أن سموه مر تلك الليلة أمام كرمة ابن هاني فألقى شاعره واقفاً على الباب فقال له:
يا شوقي أعجبتني قصيدتك كما أعجبتني زينتك فارتجل شوقي بك الأبيات الآتية التي أشرنا إليها، كحاشية لطراز البردة:
زين الملوك الصيد مر بزينتي ج كرماً وباب الله طاف ببابي
يا ليلة القدر التي بلغتها
…
ما فيك بعد اليوم من مرتاب
ما كنت أهلاً للنوال وإنما
…
فنحات أحمد فوق كل حساب
لما بلغت السؤل ليلة مدحه
…
بعث الملوك يعظمون جنابي
بدران بدر في السماء منور
…
وأخوه فوق الأرض نور رحابي
هذا (ابن هاني) نال ما قد نلت من
…
حسب ندل به على الأحساب
قد كان يسعى للرشيد وبابه
…
فسعى الرشيد إليه وهو ببابي
* * *
أما حافظ فقد مثل بحضرة الأمير يوم وصوله وقام في السرادق الفخيم الذي نصبته لجنة الاحتفال في ساحة سراي عابدين فأنشده قصيدته التي سلفت الإشارة إليها. وكان الأمير يصغي إلى منشده بكل انتباه،