الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 8
- بتاريخ: 1 - 11 - 1910
العمال والحكومات
العمال هم العدد الأوفر في الأمم، والعامل الأكبر على رقي الشعوب، عليهم مدار قيام الكون، وبهم تقدم بني الإنسان في معارج العمران.
هم معدن ثروة البلاد وغناها، ومنهم مصدر نفوذها وسلطتها، وينبوع مجدها وعلاها، بل هم أعصاب البشرية ومجموع حياتها وقواها.
هم الذين بعملهم الدائم وجهادهم المتتابع وسعيهم المتواصل يسيرون بسفينة بلادهم سيراً حثيثاً أميناً في بحر تنازع البقاء المتلاطم غير هيابين ولا فخوري. فلا تقعد بهمهم العواصف العاصفة، ولا تثبط عزيمتهم الرياح الثائرة والأمواج الهائجة، بل يواصلون الجد بثبات وحزم. . . ولا يفاخرون بعملهم ولا يباهون بخدماتهم شأن كبار القوم.
هم لا تصيبهم مزن الألقاب والرتب وعلامات الشرف المصطلح عليها، هم لا يؤبد رسمهم بالتماثيل النحاسية والأنصبة المرمرية، لكنهم يصبونها من قلوبهم ومهجهم ليمجد بها غيرهم. هم لا يخلد اسمهم في التاريخ بل يكتبون صفحاته بدماء أفئدتهم ليعظم فيها سواهم. هم لا يكللون
بأكاليل الغار بل يغرسونها بعرق الجبين ويجنونها بكد اليمين ليزينوا بها جبهة رؤسائهم.
أما هم فجل ما إليه يتوقون هو ما يسدون به رمقهم ويسترون عورتهم، فلا يتقاضون الإنسانية جزاء تفانيهم الدائم واستهلاكهم المستمر إلا ما يعولون به عيالهم.
العملة هم الأحرف الصغيرة التي تنضد منها قصيدة البشرية، وتتألف منها أنشودة الكون. وما الكبار والحكام والمتمولون سوى أحرف العنوان الكبيرة التي تستلفت الأبصار وتستوقف القارئ ولا معنى ولا مداول لها إلا بما يليها من صغير الحروف.
بل قل إن العملة هم أشبه بأولئك البحارة الذين يشتغلون في داخل الباخرة. يوقدون ويديرون ويحركون. ولا يرى أحد لهم عملاً حتى أنهم أنفسهم لا يرون نتيجة عملهم إذ هم في قعر المركب مدفونون.
بيد أن سير السفينة الماخرة في عباب الماء، تحت زرقة السماء، نحو الأرض البعيدة، هو معول شغلهم، والفضل فيه راجع إليهم. . . .
نحن لا ننكر أن أولئك البحارة لا يصلحون بلا القبطان، كما أن الجنود لا يقوون بلا القائد لكنه قد يفوت الكثيرين فينسون أو يتناسون أنه لولا البحارة لما وجد القبطان، ولولا
العساكر لما كان القائد. كما أنه لولا حروف الكتابة الصغيرة، لما وجدت حروف العنوان الكبيرة. وهذه سنة الخلاق في خلقه.
تنبهت الحكومات الراقية إلى هذه الطبقة الأكثر عدداً الأقل حظاً،
وفهمت أي فراغ تملأ في الكون؟ وأية دعامة هي للثروة الحقيقية والتقدم الصحيح فوجهت إليها عناية خاصة، وسنت لها قوانين ونظامات حافظة. ونعم ما هي فاعلة.
على أن العمال لم يلفتوا الحكومات إليهم إلا بفضل ما أظهروه من التضامن والتعاضد والتكاثف، فألفوا النقابات والجمعيات، وأسسوا صناديق التوفير والتأمين، حتى أصبحوا هيئة منظمة ذات حول وطول. إذا داعوا سمعت دعواهم. وإن طالبوا أجيبت مطالبهم.
ساءت حالهم، ونكبوا بالضيق والعسر وباتوا في أنحاء المعمور أجمع عرضة للهلاك شقاءً وبؤساً وليس من يمد لهم يد المساعدة إلا الأفراد القليلون. فهبوا هبة واحدة، وعملوا على تنظيم شؤونهم المادية والاجتماعية، فنالوا المنزلة التي يستحقونها في المجتمع الإنساني. وما أشرف منزلة العامل من منزلة. . . .!
ولكن القوة تولد البطر، والسطوة تنتج الاستبداد، ويد الغايات تمتد إلى كل مجموع. اعتصب العمال فنالوا مطالبهم الحقة أحياناً، ورأى بعض الزعماء فيهم قوة تدك العروش، وتهز التيجان على الرؤوس، فاتخذوهم آلة لنيل مآربهم الملتوية. فرأينا الاعتصاب تلو الاعتصاب بحق وبغير حق وتلك الحركة التضامنية - الجميلة في بدايتها - تتحول أحياناً إلى ثورة فوضوية لا رادع لها ولا وازع. فتعرقل التجارة، وتقطع المواصلة، وتضر بالزراعة، وتوقف دولاب الصناعة، وتقوم عقبة كؤوداً، في وجه سير العمران. وكثيراً ما صار هذا التضامن تضامناً إجبارياً أدهى وأضر
من التخاذل. وهذا الاعتصاب المتكرر في فرنسا وإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة قد سبب هذه السنة من الأضرار ما لا يقدر.
على أن هذه الحركة لم تبد إلا في تلك الدول التي تعد في طليعة الأمم الراقية، حيث تنبه الشعب وأدرك ما له من الحقوق - وإن نسي أحياناً ما عليه من الواجبات. ولما كانت الحكومة صورة الشعب رأينا تلك الحكومات - وإن هالها هياج العمال - تسعى إلى تحسين حالهم وصيانة مصالحهم وصد أصحاب رؤوس المال عن اهتضام حقوقهم. فلئن تعدى العمال أحياناً حدودهم مدفوعين بيد تعمل في الخفاء، فإن طول الحيف الذي كثيراً ما يلحق
بهم يشفع لهم ويجعلهم دائماً جديرين بكل اهتمام.
ولذلك رأينا مجلس نواب ألمانيا يقرر المباشرة حالاً بكثير من الأشغال العمومية المنوي إنشاؤها في المستقبل، وذلك لتشغيل الذين لا يجدون شغلاً.
وسمعنا مناقشات مجلس العموم في إنكلترا تتناول أمر العملة ومسألة إعالتهم في شيخوختهم ووفاتهم.
وقرأنا منشورات الرئيس روزفلت المنددة بالشركات والنقابات المدافعة عن حقوق العمال والفعلة المهضومة. فقامت لها أمريكا وقعدت.
وشاهدنا حكومة فرنسا لدى تشكيلها وزارتها الأخيرة قد أوجدت نظارة خاصة دعتها نظارة العمل للنظر في شؤون العمال والذود عن مرافقهم ومصالحهم والسعي في ترقية أحوالهم المتوقف عليها رقي البلاد. .
لعمري إننا سائرون حسب سنة الارتقاء إلى زمن - عساه أن يكون قريباً - تصبح فيه نظارات العمل أرفع شأناً وأكثر خطارة من نظارات