الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا تأثير مدينتنا الحديثة على ابن التيبت الساذج. ولا مجال هنا لإيراد كل ملاحظاته على ما رأى وشاهد. وله آراء وأفكار في حالتنا الاجتماعية لا تخلو من دقة النظر. وقد ذكر عرضاً علائق الرجال بالنساء فقال:
. . . وفي هذه البلاد يجلس الرجال والنساء معاً حول مائدة. ويقدم الرجل ذراعه للمرأة، فيتأبط ذراعها ويدخلان بهذه الصورة إلى غرفة الطعام. وحب الرجال للنساء شديد، فهم يحنون ظهورهم لمخاطبتهن بأعذب الأصوات، والابتسامة على ثغورهم. وإذا زنت عندهم امرأة متزوجة فلا يقتلها زوجها كما يفعل الرجل الشريف في بلادنا أو في الصين، بل هو يكاد لا يكترث للأمر. لكن الناس يضحكون كلما مر ويقولون أن جبينه يشبه جبين الثور.!! ولم أفهم المقصود من ذلك. . .؟
فالذي يطالع هذا الوصف مع ما فيه من الحقيقة، ولم تسبق له معرفة بأسرار الكهرباء والبخار، يتصور أنه يطالع سفراً من الأسفار التي نسميها خرافات.
عنترة وعلبة
يغزوان باريس
طالعت صحف باريس وما فيها عن رواية عنتر التي مثلت في ملعب إمارة مونتي كارلو وملعب الأديون - وعنتر رواية نظمها بالشعر الفرنساوي العالي شكري أفندي غانم - فما أطربني نجاح صديقي المؤلف في نظمها كما أطربني تخيل عنترة بطل البوادي والقفار، ونزيل
المضارب والخيام، آكل الجشب، ولابس الخشن، في ثوبٍ من الخز يهز بكلامه قلب باريس، بل قلب أوروبا، كما يهز قلب العرب في شطر آسيا وشطر أفريقيا، ببيت من الشعر قد لا يناظره بمثله فيكتور هوغو، ولا يلاحقه شكسبير، ولا يدانيه دانتي.
أجل إنه ليطربني اليوم من بطل البادية، وربيب القفر، وفوقه في أم الحضارة، ناظراً إلى خليلته عبلة، وغانم يضع في فيه بلغة باريس، قوله بلغة بني عبس:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
…
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
…
لمعت كبارق ثغرك المبتسم
فيملي بهذا الشعر على أبطال الغرب كيف تكون الأبطال، ويملي على عشاقهم كيف تكون رجولة العشاق، بل يملي على كتابهم كيف يحلق الكاتب في سماء الخيال، حتى تكاد تتقطع دون الوصول إليه البصائر والأبصار.
وإذا أنشد قوله أغشى الوغى وأعف عن المغنم تمثل لعيني السامع إقدام الشجاع، ونزاهة الكريم، ومرؤة الجواد، وشهامة الغطريف. فلا تأنف باريس أن تعشق البدوي الأسود لفضائله، والفضيلة ملك الإنسانية كلها، فهي ليست بدوية ولا حضرية فأينما وجدت ملكت وسادت، وأينما أذيعت أكرمت وأجلت. وكرم الخلال وكرامة النفوس في أمة، تظهر وتبدو في لغتها وآدابها، وفي أناشيدها وأشعارها. فلا تعيبها نبرات لهجة، ولا مخارج حروف، مادامت الألفاظ وعاء للمعاني،
ومادامت المعاني في ألفاظ اللغات كالدرر في الصدف. ولا تكون قيمتها بقائلها بل بنفسها. وإذا دلت على شيء فعلى فضل الأمة الذائعة فيها، والمأثورة عنها. وما قول عنترة العرب إلا حجة:
تعيرني العدا بسواد جلدي
…
وبيض شمائلي تمحو السوادا
فتلك الشمائل البدوية لا تنكرها الفضائل الحضرية، ولا العلوم الفلسفية، مادامت حكمة الأمم
مستمدة من أخلاقها لتهذيب أخلاقها، ودام قدر الأمم مرفوعاً بفضائلها، كما يرفع قدر العرب إعلان فضائلهم بين من جهلهم.
وإني موقن بأن ناظماً كغانم، في بطل كعنترة، يستوحي روح ابن شداد بالفرنساوية، لا يعجزه أن يفتح للعربية باريس، وأن يغزو بحمالها أوروبا، إذا صال وجال، وهو يردد وينشد مع العبسي:
حصاني كان دلال المنايا
…
فخاض غبارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيباً
…
يداوي رأس من يشكو الصداعا
أنا البطل الذي خبرت عنه
…
وقد عاينتني فدع السماعا
فأي قلب يجمد، وأي كبد تقسو لمثل هذا الكلام؟ بل أي أريج يفوق أريج زهرياته، إذا وصف الربيع الواصفون، وغناه المغنون وابن شداد هو القائل:
زار الربيع رياضنا وزها بها
…
فنباتها جليت بأنواع الحلي
فالروض بين تألف وتهفهف
…
وتعطف وتصرف وتململ
بل ما أجمل الباريسية يلبسها غانم دثار البدوية، ويطلق لسانها
بشعر له نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، بود درك للحاجة، يدق معناه، ويلطف مبناه، وتعطف حواشيه، وتنير معانيه. كأنه إشراك القلوب، إذا بسط لها ترتمي عليه ولا تنفلت منه. . .
ألا أن لنا من كنوز آبائنا العرب الغطاريف حلياً أو لبسناها خالصة من الصدأ لبهرت لها عيون المتمدنين؛ وسلاحاً لو جردناه مشحوذ الغرار، لاستسلم له كل عاتٍ عنيد. ولكنا قصرنا وعجزنا حقبة من الدهر عن أن نزدان أمام العالم المتمدن بذياك الحلي الباهر. فقال الجاهلون مزدرين: عرب هؤلاء وما هي قيمة العرب؟ ولغة هي العربية؛ وأين هي من سامي اللغات ورقيقها؟؟
ولكنا قد أفقنا اليوم من السبات، وعرفنا قيمة ما بقي من تراثنا ولم تلعب به يد الشتات، فأبرز مردروس ألف ليلة وليلة للعالم الأوروبي بوشاح إفرنجي، فغض الروائيون أبصارهم حياء لسناها وبهائها. وأبرز آخر شعر حسن بن الخيام بثوب إنكليزي فتعشقه بعضهم حتى العبادة. وألبس الريحاني رباعيات أبي العلاء رداء سكسونياً، فكبروا له وهللوا، وسبحوا وحمدلوا، واليوم أنزل غانم إلى باريس عنترة البطل المغوار وعبلة الحسناء. فجاءتنا
صحفهم تري بطل العرب بل آداب العرب وتقاليدهم.
فالريحاني ومردروس وغانم وأضرابهم وأمثالهم هم اليوم أبطال العرب، يفتحون بعقول أجدادهم بلاد الغرب للشرق. ويعلون مقام أمتهم في العالم المتمدن. فإذا كثر عديد هؤلاء الأبطال. رد إلى العرب شرفهم الذي ابتذل بالضعف والضياع. ومجدهم الذي دفن مع ملكهم وألحد مع
زهوهم حتى استنكروا على العارفين. وكادوا يخفون عن عيون المنقبين الباحثين، وصات كلمة عربي في أوروبا وأمريكا سباباً للعرب والمستعربين.
وقد قرأت في الصحف أن الذين شهدوا عنترة وعبلة كانوا آلافاً جنوا بهما سروراً وفرحاً. فلم تبق في نفسي ريبة بأن أولئك الألوف الذين سمعوا كلام عنترة قد عرفوا مجد العرب وفضائلهم فلا يجسر واحد منهم - أو هو يدعو على لسانه بالقطع - أن يعيب الغربي أجداده ونسبه بعدما عرف شيئاً عن مجد أولئك الأجداد ونسبهم.
فمن مصر إذن بل من الشرق العربي أمد مع كل أدب يدي إلى مصافحة غانم وشكره والثناء عليه. فليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدفع والحسام فقط، بل أجل منهم وأنبل من يفتحون القلوب باليراعة ويملكونها بخالب الفصاحة - وغانم منهم.
داود بركات
(الزهور) إنا نسدي شكري أفندي غانم خالص التهاني على فوزه الباهر ولا نمدحه إلا بما أطراه به الأجانب أنفسهم فقد كتبت مجلة الالوستراسيون في عدد 19 فبراير الفائت ما يأتي: في ملعب الأديون رواية جديدة تستحق أن تنجح - وقد نجحت نجاحاً ساطعاً - فهي ترضي العين والأذن والعقل، مؤلفها عربي باريسي وهو رئيس الغرفة التجارية العثمانية في باريس. . . . وقد أحيا شكري غانم بأشعار لطيفة صافية منسجمة انسجام الماء ذكر عنترة البطل العربي الشاعر العاشق ومثل ذلك قالت الطان والفيغارو والجورنال وغيرها من أمهات الصحف.