الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيروت ولبنان
وصلنا إلى بيروت وهي من المدن السورية الآهلة بالسكان، وقد عرفت عند الأقدمين باسم بيريت وأصبحت على عهد أغسطس مستعمرة رومانية وأطلق عليها الفاتح الروماني اسم جوليا السعيدة وقد ميزت بهذه الصفة، لخصب ضواحيها وفخامة موقعها، وجمال جوها العديم المثيل. والمدينة قائمة على رابية جميلة تنحدر شيئاً فشيئاً إلى البحر وقد قامت فيه بعض صخورها فرفعت عليها الحصون التركية. أما ميناؤها فهي كناية عن لسان أرض يمتد في البحر ويقي المراكب من الرياح الشرقية. وكل هذه البقعة وما حواليها من الروابي مكللة بخضرة جميلة، وترى شجر التوت قائماً على مدرجات من الأرض. وشجر الخروب والتين والدلب والبرتقال والرمان تلقي ظل أوراقها المختلفة الألوان على تلك الأنحاء. ووراءها الزيتون ذو الورق الرمادي يزركش هذا المنظر الأخضر البديع. وعلى مسافة ميل من المدينة انتصبت سلسلة جبال لبنان وفيها الأخاديد التي يضيع فيها النظر. وتتحدر في طياتها مجاري الماء إلى صور وصيدا أو إلى طرابلس واللاذقية. وقمم تلك الجبال المتفاوتة العلو تضيع في السحب البيضاء أو تسطع من انعكاس أشعة الشمس فتشبه جبال الألب وثلوجها الأبدية.
إن أرز لبنان أشهر أثر طبيعي في العالم. تناولت شهرته الدين والعلم والتاريخ: فورد ذكره مراراً في التوراة، وعمد الأنبياء في تشبيهاتهم واستعاراتهم إلى الأرز، ومن الأرز اتخذ سليمان الخشب لبناء هيكل الإله الأحد. . .
الأرز أقدم شاهد على الأعصر الخوالي، بل إن هذه الشجرات تعرف التاريخ أحسن مما يعرف التاريخ نفسه ولو كان يمكنها الكلام لروت لنا أحاديث الحكومات والديانات والشعوب المنقرضة.
وهل من هيكل أجمل من هذا الهيكل. .! وهل من مذبح أقرب من السماء من هذا المذبح؟ لقد أظلت تلك الأغصان الباسقة أجيالاً عديدة من الناس وكلها تسبح الله بأسماء مختلفة وتعبده في مظاهره الطبيعية. وأنا أيضاً صليت أمام الأرز. وكان الهواء يرتل بين الفنان ويتلاعب بشعري وينشف على جفوني دموع التأثر والأخبات.
لامارتين
وقال لامارتين في غير هذا المكان من كتابه: لو أتيح لي أن أدبر حياتي كما أريد. لقضيت عمري صيفاً على قمم لبنان وشتاءً عند سفحه. وقد قال الصمة الشاعر العربي مثل ذلك في نجد:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
…
وما أحسن المصطاف والمتربعا
والمصطاف مكان الصيف والمتربع مكان الربيع.
يا بني أمي إذا حضرت
…
ساعتي والطب أسلمني
فاجعلوا في الأرز مقبرتي
…
وخذوا من ثلجه كفني
داود عمون