الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 9
- بتاريخ: 1 - 12 - 1910
هنري دونان
مؤسس جمعية الصليب الأحمر
نعت أنباء البرق في الشهر الفائت شيخاً جليلاً ورجلاً عظيماً كادت الأيام تنسج حوله عناكب النسيان، مع أنه جدير بأن يبقى حياً في القلوب والأذهان. وافاه أجله في إحدى قرى سويسرا في شيوخة صالحة بعيداً عن ضوضاء هذه الحياة بعد أن جاهد فيها جهاد الأبطال.
هنري دونان هو اسم رجل تجهله عامة الناس، مع أنه أهل لأن يكتب بماء الذهب في سجل المحسنين إلى الإنسانية. هو اسم رجل كبير النفس والقلب، سامي المرمى رفيع المبدأ. له على أبناء جنسه الأيادي البيضاء، فقد بذل في سبيلهم كل غالي ونفيس ليخفف عنهم وطأة البلاء والشقاء. كيف لا وهو مؤسس جمعية الصليب الأحمر ذات المواقف المعروفة في ساحات القتال ومساعدة المجروح على تضميد جرحه وتعزية نفسه.
ولد هنري دونان سنة 1828 في جنفا من عائلة عرفت بالوجاهة
والثروة، ومال منذ نعومة أظفاره إلى أعمال البر والعطف على الإنسان. وكانت له يد تذكر في مقاومة الرقيق. ولم تلبث قصص الحروب والمرويات عن المعارك وأهوالها أن وجهت منه النظر إلى حالة الجرحى وما يقاسون في ميدان الكفاح. وفي سنة 1859 لما استعرت نار الحرب بين النمساويين والفرنسويين ذهب بنفسه إلى ساحات القتال ليدرس كيفية إمكان مساعدة الجرحى، وحضر معركة سولفرينو التي اشتبكت بين المتقاتلين في الرابع والعشرين من شهر يونيو (حزيران) من تلك السنة. وعند المساء أخذ يطوف ساحة الحرب. فنظر هناك عدداً كبيراً من الجرحى مخضبين بدمائهم يئنون وينوحون ويستغيثون ويستنجدون، ولكن لا مغيث ولا منجد. فأثر هذا المشهد في فؤاده أي تأثير، وخفق قلبه لهول ما رأت عيناه، وقال ما قاله غيره قوتل الإنسان ما أعظم شره. كيف قدم على الفتك بأخيه الإنسان؟ فجمع حوله بعض المتطوعين وباشر للحال مساعدة الجرحى المتروكين.
ومن ذاك الحين أخذ يدرس ويبحث ويطالع، فدخل في أعماق النفس البشرية، فوجد أن الحرب مرض الإنسانية وعلتها الكبرى. فوقف وقفة المداوي الخبير. فرأى أن هذه العلة صعبة الاستئصال، وإن شفاء هذا المرض العضال ضرب من المحال. فقال في نفسه: إذا
كان ليس في الإمكان إيجاد داء لحسم هذا الداء فلنخترع له مسكناً يخفف آلامه.
وآلى على نفسه أن يفرغ جهده ويكرس حياته في سبيل هذا المشروع العظيم، فكتب مقالة عنوانها ذكرى سولفرينو يدعو بها
الشعوب المتمدنة إلى الاتفاق على تأليف جمعية دولية تجمع الإحسان لمساعدة الإنسان المجروح من يد الإنسان. فكان لمقالته تأثير عظيم في النفوس، ووقعت من الجميع موقع الاستحسان. ولكن صداها ما لبث أن خفت، كما أن تأثيرها ما عتم أن زال من القلوب. ففهم دونان أن مثل هذا المشروع يقتضي جداً طويً وسعياً مستمراً، فأخذ يزور العواصم الكبرى، ويخطب في المجالس والأندية حتى وضع أساساً لعمله وقاعدة لمشروعه.
وكان الوقع الأكبر لصوته، والنهضة العظمى وراء دعوته في عاصمة فرنسا حيث لاقى دونان كل مساعدة ومؤازرة. وأول من مد إليه يد المعاونة جريدة الديبا حيث أخذ الكاتب الشهير سان مارك جيراردان ينشر المقالات الشائقة في هذا الموضوع. وحذا حذوه غيره من الكتاب في سائر البلاد، فانتشرت الفكرة انتشاراً بعيداً، ولم يمض إلا القليل حتى تم تأسيس جمعية الصليب الأحمر وأصبحت مطمح أنظار الجميع. فانتظم في سلكها كل عظيم وشريف، منهم: غيزو ورنان وروايه كولار وده لسبس ومدام ستايل وغيرهم. وفي 26 أكتوبر من سنة 1863 اجتمع الأعضاء لأول مرة في مدينة جنفا، وفي السنة التي بعدها عقد في المدينة نفسها مؤتمر عام أرسلت إليه جميع الدول معتمدين يمثلونها لتقرير قانون الجمعية الدولية العامة لمؤاساة جرحى الحروب.
وعلى هذه الكيفية كان تأسيس جمعية الصليب الأحمر التي وقفت نفسها من ذلك الحين على خدمة الجرحى ومساعدتهم على اختلاف
المذاهب والجنسيات، فخففت شيئاً من أهوال الحروب وقللت من بلاياها ونشرت راية السلام فوق نيران المدافع وبريق البواتر.
ولا تسل عن فرح دونان وغبطته عندما رأى مشروعه مكللاً بالنجاح، فعد نفسه سعيداً ورأى أن مهمته قد انتهت فاعتزل العالم وعاش منفرداً في إحدى القرى حتى كاد يصبح نسياً منسياً مع أن اسم جمعيته طبق الآفاق، وذكر مآثرها ملأ الأسماع. فلا يذكرها أحد إلا بالثناء والاحترام. وأمام شارتها المعروفة يسكت المدفع، ويغمد السيف، ويبسط ملاك الرحمة جناحيه على ضحايا البشرية.
ولكن صاحب الفضل ينال ثوابه. ففي سنة 1901 نال هنري دونان الجائزة التي وضعها العالم الأسوجي الفرد نوبل للذين يمتازون بخدمة الإنسانية إن بعلمهم أو كتاباتهم أو مشروعاتهم الخيرية. فكان له فيها مسد لحاجته.
هذا هو الرجل الذي نعاه البرق في الشهر الماضي فلم تدجج القصائد في رثائه، ولم تفض الصحف في تعداد مآثره، مع أنه في طليعة من خدموا الإنسانية جمعاء.
فأكرم بمثل هؤلاء الرجال الذين تجب كتابة أسمائهم على صفحات القلوب إقراراً بفضلهم واعترافاً بجميلهم. ولينم هنري دونان سعيداً في ضريحه فإن قلوب الألوف من الذين تؤاسيهم جمعيته يباركون اسمه ويستمطرون الغيث على ثراه.