الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النيل
مصر هيدة من النيل
(هيردوت)
اسم النيل مأخوذ عن اليونان وأصل الكلمة في لغتهم نيلوس ولعل اليونان أخذوها عن الفينيقيين أو الحثيين أو عن القبائل التي كانت في لوبيا أو في آسيا الصغرى. أما اسمه عند المصريين بصفته مقدساً فهو جعبى وإن أخرجوه عن الألوهية سموه يومع ومعناه اليم. أو سموه النهر الكبير أور ويؤخذ من الرسوم القديمة أنه كان يكنى بأبي الأرباب، ورب الغذاء، ومخرج المأكولات بخصبه، ومالئ القطرين بمحصولاته، ومانح الحياة، ومزيل المجاعة إلخ. وحقاً إن النيل لكذلك.
وهو يحدث في مصر ثلاث هيئات: الأولى زمن الفيضان، فتصبح فيه مدن مصر جزائر وأرضها أنهاراً ولكن ذلك سيزول بمشروعات الري الجديدة. والثانية زمن الانحسار، فتتكون فيه كجنة أغراسها نضرة ومزارعها يانعة خضرة. والثالثة زمن التحريق فتكون الأرض فيه قحلة جدبة عليها غبرة. ولقد أصاب أحد شعراء العرب إذ قال:
كأن النيل ذو فهم ولب
…
لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه
…
ويمضي حين يستغنون عنه
وقال أبو الحسين المعروف بابن الوزير مشيراً إلى ما ينجم عن الفيضان من الخيرات:
أرى أمداً كثيراً من قليل
…
وبدراً في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكل خليج ماء
…
بمصر مسبب لخليج مال
زيادة إصبع في كل يوم
…
زيادة أذرع في حسن حال
عيد النيل
وكانوا يحتفلون قديماً بعيد النيل احتفالاً عظيماً، فإذا جاء الانقلاب الصيفي وأتى الماء المقدس من أجباب أسوان إلى جبل السلسلة قامت القسوس المقيمة في هذا الجبل أو الملك الحاكم أو ابنه فيتقرب بثور أو بإوز، ثم يلقي في الماء قرطاساً مختوماً من البردى يشتمل على أمر فيه إطلاق الحرية له بالزيادة، لكي يضمن لمصر الخير بفيضان معتدل وكانوا يعتنون بهذا العيد رعاية للرواية القديمة القائلة إن سعادة السنة أو شقاءها موقوف على ذلك
المهرجان، فإن حصل منهم في شأنه إهمال أو توانٍ، رفض النيل الأمر الصادر إليه، وأغرق الأراضي والجهات. وفي هذا الموسم كان الفلاحون يأتون بالزاد ويأكلون معاً أياماً متوالية ويشربون حتى يثملوا. ويستمرون على ذلك حتى يأتي يوم الموسم الكبير، فتخرج حينئذ القسوس من المحراب وبينهم تمثال فيزفونه على الشاطئ بالألحان والأصوات المطربة والترتيل والمدائح وصدح الآلات الموسيقية فيقولون ما ملخصه:
السلام عليك أيها النيل، يا من ظهرت على هذه الأرض وأتيت لإحياء مصر، أنت الذي يختفي مجيئك في الغياهب إلى يوم الترتيل بقدومك أنت البحر المفيض بمياهك على البساتين التي أوجدتها الشمس لنا لتحيي جميع ما يكون في شرق. أنت صانع القمح وموجد الشعير ومطيل أجل المعابد. إن تعطلت أصابعك أو اعتراك كساد، أصبحت الألوف من الناس في فاقة. وإن نقصت وقت نزولك من السماء، أفنيت المعبودات والخلق، وتكدرت الحيوانات وصارت الأرض كباراً وصغاراً في عذاب. وإذا كانت الحال على عكس ذلك واستجيب دعاء الناس تصيح الأرض ابتهاجاً، وينشرح كل ذي بطن، ويهتز كل ظهر من الضحك. . . يا مجلب
الأرزاق ومكثر المأكولات، أنت الذي يوجد علف الحيوانات، ويعطي كل ما لزم لقرابين المعبودات، أنت الذي يهتم بالقطرين فتمتلئ المخازن وتزداد خيرات الفقراء، أنت الذي يستجيب دعاءهم عند تقديم النذور فلا ينقصهم شيء. . . وإذا دخلت كنت محاطاً بالأغاني، وإذا خرجت صاحبك التهليل، وإذا رقصوا فرحاً يوم ظهورك من غياهب مكمنك فما ذلك إلا لكون عجزك اضمحلال لهم وفساد. . ومتى تضرعوا إليك لينالوا الماء السنوي شوهد أهالي مصر الوسطى وأهالي الوجه البحري مصطفين بعضهم بجانب بعض، وكان كل امرئ حاملاً لعد صنعته ولا ينزوي أحد وراء جاره. . أنت منبت الأرزاق الحقيقية التي هي رغبة الناس. . هذا هو كلام الالتماس الذي يجعلك مجيباً لدعائهم وإذا تكرمت بلجج المحيط السماوي على الإنسانية قدم نبرى معبود الحب عندئذ قربانه وسجدت لك كل المعبودات قاطبة. ومتى عجنت يداك شيئاً صار ذهباً، أو طوبة صارت فضة. لا يوكل اللازورد لكن القمح أفضل من الأحجار الكريمة. لقد شرعوا في الغاني على العود، وأخذوا يرتلون لك بتصفيق مستمر لتبتهج من أجلك ذراري أولادك، وليكثروا من أجلك تراتيل المدح، كيف لا والنيل هو إله الثروة، وهو الذي يحيي قلوب
النساء الحبالى. ولو تأخر عن إعطاء الغذاء، لزالت السعادة من المساكن، ووقت الأرض في ضعف شديد. . .
ولا يزال المصريون حتى اليوم يحتفلون احتفالاً عظيماً بما يسمونه وفاء النيل ولقد جرى الاحتفال هذا العام في 25 أغسطس (آب) الماضي بالأبهة المعتادة: