الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أحد أدباء الفرنسويين لكل امرئ وطنان: وطنه الأصلي ووطنه باريس فلبيك إذن على باريس كل الناس، فهي وطن كل الناس.
من حقها على من أكرمت وفادتهم ورحبت بهم منزلاً، ونثروا عليها التبر وهي حالية، أن يكرموها في مصابها، وأن ينثروا عليها التبر وهي عاطلة.
سأبكي باريس مستمداً دموع الغمائم، مستعيناً بعيون النيرات. فإن تنفد الدموع، فإن من الأسى ما يجدده الشوق، وينميه الغرام. سلام على باريس في مصابها. سلام عليها في جلبابها الأسود. وكأنها العذراء بعثت لتدعو العالم إلى السجود. . .
ولي الدين يكن
الغد
السيد مصطفى لطفي المنفلوطي أشهر من أن يعرف. فلقد نالت كتاباته الرائقة شهرة بعيدة وتناقلتها صحف القطرين. وهو مباشر الآن طبع كتاب تحت عنوان النظرات جمع فيه ما نشره على صفحات الجرائد والمجلات. وسيكون هذا الكتاب النفيس خير متحف جمع بين أسلوب الأقدمين وتفنن المحدثين. وسنعود إليه بالتفصيل بعد بروزه من عالم الطباعة إلى عالم المطالعة. ونحن واثقون بأن كل قارئ سيضمه في مكتبته إلى كتبه الثمينة. وقد تفضل صاحبه بان يترك لنا اختيار ما نريد من الملازم التي نجز طبعها لنحلي به العدد الأول من هذه المجلة. ولذلك أتيح لنا أن نتحف القراء بالمقالة الأولى من كتاب النظرات وهي تحت العنوان المتقدم:
عرفت أني فكرت ليلة الأمس فيما أكتب اليوم، وعرفت أني ممسك الساعة قلمي بين أصابعي، وأن بين يدي صحيفة بيضاء، تسودُّ
قليلاً قليلاً، كلما أجريت القلم فيها. ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه، أو يكبو دون غايته. وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها. لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئاً. ولأن المستقبل بيد الله.
عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأني لا أزال ألبسها حتى الآن. ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي، أو تخلعها يد الغاسل.
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من بعيد فربما كان ملكاً رحيماً. وربما كان شيطاناً رجيماً. بل ربما كان سحابة سوداء، إذا هبت عليها ريح باردة، حللت أجزاءها، وفرقت ذراتها، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود.
الغد بحر خضم يعب عبابه، وتصطخب أمواجه، فما يدريك غن كان في جوفه الدر والجوهر، أو الموت الأحمر.
لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار، حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أو على حافة القبر.
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.
كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، رابض في مجثمه متلفع بفضل إزاره، ينظر إلى آمالنا
وأمانينا نظرات الهزوء والسخرية، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء.
يقول في نفسه لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الوالد أنه يلد للموت، ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد.
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم، فاتخذ نفقاً في الأرض، وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب من حديد وخيوط من نحاس.
انتقل بعقله إلى العالم العلوي فعاش في كواكبه، وعرف أغوارها وأنجادها وسهولها وبطاحها وعامرها وغامرها ورطبها ويابسها.
وضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة، والموازين لوزن كرة الأرض مجموعة ومتفرقة.
غاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها.
نفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها
وعرف كيف يعيشون، وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون.
تسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها. والعقول ومذاهبها. والمدارك ومراكزها. حتى كاد يسمه حديث النفس ودبيب المنى.
اخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزاً مقهوراً لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه، لأنه باب الله. والله لا يطلع على غيبه أحداً.
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب. هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك، أو لا، فاقترب منا علنا نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك.
أيها الغد. إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك. وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها. أأذلتها وأهنتها، أم كنت لها من المكرمين.
لا لا. صن سرك في صدرك، وابق لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها، فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة. وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة.
وليست حياة المرء إلا أمانيا
…
إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر
مصطفى لطفي المنفلوطي