الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أحسن صاحب الكتاب الذي أشرنا إليه في صدر الكلام إذ قال: المهاجرة هي أمتن ذريعة تتذرع بها الأمة لدى أولي الأحكام، تنفيذاً لبغيتها من الإصلاح والنظام وهي كمقاطعة البضائع بين الدول حرب سياسية اقتصادية لابد لها أخيراً من الفوز والغلبة
أما النقطة الثانية فهي الاهتمام بالمهاجرين في مهجرهم وهم يبلغون مئات الألوف كما قدمنا وفيهم التاجر والمالي والطبيب والمحامي والصانع والمزارع والمؤلف والمخترع. فهم إذن قوة استعمارية عظيمة بالمعارف والعلوم والفنون والمال ونشر النفوذ ويحق لدولتهم أن تفاخر بهم ويجب عليها أن تحتفظ بهم فتحكم علائقها بهم ولو بعدت الديار وشط المزار، وذلك بالالتفات إليهم وتعيين قناصل ووكلاء سياسيين ينظرون في أحوالهم ويوثقون رابطتهم القومية وجامعتهم الوطنية، ويذودون عن حقوقهم ومرافقهم فلا يكونون عرضة للإهانة وطعمة لكل من تحدثه النفس بالتهجم عليهم وليس كل ما قدمنا بالأمر العسير على الحكومة الراقية التي تفهم واجباتها نحو أمتها.
بين جدران السجون
وكادت الغزالة تتوارى وراء حجاب الأفق فقفلنا معها عائدين من سراي الحكومة إذ استوقفنا عند الباب الغربي طرق مطرفة رددت صدى ضرباتها المتتابعة جدران ذلك المكان.
في الشبيبة، مهما تكاملت صفاتها، روح دفعتنا إلى سؤال أحد
الجنود الخفراء عن مصدر هذا الصوت، فأجاب: من سجن المغاور. وكان هنالك قوة دافعة أيقظت فينا الميل إلى الاطلاع على ما يجري في تلك القصور السفلية! فسرنا إلى حيث انبعث الصوت. وزادنا ميلاً اعتراض أحد أنفار الخفارة لنا بقوله بلهجة عسكرية مألوفة يا سق، فانتظرنا.
ولم يطل انتظارنا، حتى فتح باب قصير، خرج منه أحد ضباط الجندومة، يصحبه كهل حامل على منكبه مطرقة ثقيلة. وفي يده بعض الأدوات الحديدية، وتلاهما عدد من أنفار الجندومة لا يتجاوز العشرة.
اقتربنا من الضابط وسألناه زيارة السجن فأجاب بنصح:
- سرحوا أبصاركم في الأماكن المبهجة، وابتعدوا عن هذه الديار فهي مفعمة شقاء.
ولكن لما أظهرت له ميلي إلى درس أحوال سكانه. أطرق هنيهة، وأشار إلى أحد أنفاره باستئذان المدير الأعلى.
وكان النهار قد مال إلى الزوال، فعاد الرسول معلناً غياب المدير ففكر صاحبنا برهة وقال: هيوا بنا!
ولجنا الباب الذي كان لم يزل مفتوحاً ودخلنا إلى نفق مظلم يبلغ طوله العشرة أمتار تفصله عن مدخله شبكة خشبية ضخمة يشرف على فناء دار عالية وإلى جانبيه وحول جدران الدار أبواب صغيرة ملاصقة الحضيض ينزل منها إلى المغاور التي يقطنها المسجونون والتي اتخذ منها هذا المدفن اسمه الشريف.
إلى أحد جدران النفق كان فتى في ريعان الشباب مطرق الرأس كأنه في واد عميق من التفكر. وإلى يمينه قيد كبل يده برجله.
انتبه الفتى من غفلته عند دخولنا فحول نظره إلينا ثم إلى الأرض وخطا خطوة ليتوارى عن أبصارنا. ولكن خطوته هذه حركت السلسلة الرابطة رجلة بيده. فأحدثت حركته صليلاً اهتزت له أبداننا. وذكر صاحبنا بحالته المحزنة. فاستند مرة ثانية إلى الجدار وأطرق
مفكراً.
لو أتيح لنظرنا أن يخترق ستر الظلام. لرأى حمرة صبغت وجنتيه. ودمعتين تجولان في عينيه. هاتان العينان اللتان لم تخشيا الأهوال نكصتا أمام أعيننا. تانك الوجنتان اللتان شاهدتا الموت صافعاً بكفه محيا فريسته احمرتا خجلاً منا. تلك اليد التي هزت الخنجر بجرأة لارتكاب الجريمة ارتجفت عند موقفنا.
للمرء مهما تقلب على بساط الجرائم وتمرغ في حمأة الفحشاء. ساعة نور وضياء. ساعة تختلي فيها الروح بمناجاة المادة في معزل عن الكائنات. ساعة ينظر بها الإنسان إلى أعماله فيلعنها. ويحكم بنفسه على نفسه.
هاتوا لي طبيباً ماهراً، دعوه يعالج هذه النفس الشقية، لينزع عنها جراثيم الوباء! ليضمد جراحها ويصب عليها بلسماً يبرد النار التي تأكلها، وأن الضمين لكم بأن تعود إلى النفس حياتها. نعم. في الفتى نفس حية. أنت تصلح لأن تكون من أكبر النفوس. لو سعى أحد لتقويم أميالها. ولكن مسكينة هي. خانها حظها. فسقطت على معبر الطريق. وداستها الأرجل فدنستها. دون أن تلقي من يلتقطها ويعتني بشأنها. ولادتها
كانت سبب تعاستها. فعاشت حقيرة. وقد دفعتها الحاجة إلى الرذيلة فهوت لضعفها. وما سقطتها إلا نتيجة نظام سن لحياتها. فشبت بين الجرائم. وستموت أثيمة. دون أن يكون الذنب كل الذنب عليها.
هذه النفس خلقت لتكون عضواً عاملاً في المجتمع الإنساني فرذلها حتى أصبحت عبئاً عليه. ثم بترها بدل معالجتها فانسلخت عنه وفي قلبها نار. وفي جوفها علقم مما حل بها.
أمام هذا المنظر الرهيب. تحركت فيّ عاطفة الشفقة على هذا المسكين عدت إلى نفسي. فوجدتها قاصرة عن إعانته. فقلت لمن معي: كفانا ما شاهدنا فعودوا بنا.
ولما تحولنا عنه تقدم منا الضابط الذي كان دليلنا في رحلتنا وقال: - عندي من يستحق التفاتكم. وهو اللبناني قاتل ابن الخياط. وجارح الإيطالي في السجن منذ أسبوعين. فإن أحببتم فسأدعوه إليكم. ثم نادى: يا أبا فارس! هو ذا من يريد أن يراك. فاصعد من سجنك.
فأجابه صوت كأنه آت من وراء القبر قائلاً: ها أنا ذا وتلاه صليل سلاسل رددته أعماق تلك الحفرة. ثم وقع أقدام ثقيلة وظهر أمامنا رجل في الأربعين من عمره طويل القامة عريض الكتفين أسود اللحية كثيفها. وعيناه تقدحان في ظلام ذلك المكان شرراً وهو لابس
سروالاً ورداءً من الجوخ الأسود وعلى رأسه طربوش لف حوله منديل جيبه. نظر الرجل إلينا ثم حيانا وقال: ما تطلبون مني؟
زرنا هذا المكان ولما علمنا بوجودك قصدنا مشاهدتك في وحدتك
- أشكركم على هذه المنة. . . هي المرة الأولى التي زارني بها أحد مدة التسع السنين التي صرفتها في سجني.
وسألناه عن حاله فقال متنهداً: في التعاسة والشقاء. بين القتلة والمجرمين كما ترون. لقد قاسيت الأهوال وذقت أمر الشدائد. وإلى جنبي سلسلتي الثقيلة. لم يكن لي مؤنس في وحشتي سوى كتاب أرسله لي حضرة قنصل أمريكا منذ شهور لما بلغه أمري. وعلم أني صرفت ثلاث سنين في أمريكا.
- ولماذا تركت أمريكا وأتيت إلى هنا.
- أنا لبناني الأصل، ولدت من إحدى الأسر المعروفة في قرية. . . وقد قضيت سني حداثتي في المنزل الوالدي ثم أرسلني أبي إلى المدرسة حيث تلقيت العربية والإفرنسية والإنكليزية. ولما شببت سرت إلى أمريكا قصد المتجر. ولكن لم يكتب لي فيها التوفيق فعدت منها - ويا ليتي لم أعد - بعد ثلاث سنين إلى مسقط رأسي. ومنها إلى هذه المدينة حيث لاقيت ما لاقيت.
- ما هي قرابتك بالكاتب اللبناني المعروف. . .؟
- هو ابن عم أبي.
- أنت كريم الأصل. حسن التربية. فما الذي دفعك إلى ارتكاب الجريمة؟
- فتش عن المرأة. قال ذلك بالإفرنسية وسكت. فنظرت إليه وإشارات الأسف تلوح على وجهه وسكت أيضاً. خواطر مظلمة مرت
على مخيلتي. وأمور شتى تواردت على بالي. الكلمات التي قالها بطل أوسترليتز وفاغرام سجين القديسة هيلانة قطعت مسافة قرن من الزمان. وطرقت مسمعي من فم سجين المغاور أحد ضحايا المرأة.
تلك المخلوقة اللطيفة موضوع خيالي. من تسجد أمامها روحي وتحرق على مذبحها بخور أماني وآمالي. تلك التي اعترفت أن سعادة المرء منها. مثلت أمامي كشبح شقاء الجنس البشري وسبب تعاسته. شعرت بسلسلة آثام وجرائم. أولها إغواء حواء. وآخرها غواية
المسكين المنتصب أمامي.
الرجل. وما صار إليه من المدينة في القرن العشرين. هذا المخلوق الذي يزاحم بأعماله الألوهية. ويدرس سر الخلود. هذا الكائن مخضع الأرواح والعامل ما وراء الوجود. تصورته أسير جسم نحيف وقد نحيل، بل ألعوبة بين القلب والعين. بل فريسة نظرة وميل.
ولم يكن إلا لمحة بصر. حتى مرت أمام ناظري صور جميلة.
أمام النجاح الباهر في التقدم والعمران. وعلى أثر الانقلاب العظيم في البشرية والأكوان تذكرت كم لتلك اليد اللطيفة من التأثير في العمل وكم شددت من عزائم وأحيت من أمل؟ كم دفعت إلى الأمام. مسهلة الأمور. وكم رفعت من خافض محركة فيه الشعور؟ تذكرت - وما أحلى ذكرى لحاظ العيون السود. وسحر ورد الخدود. ولواجع قلب يخفق تحت رمان النهود - وقلت في نفسي: لله أفي تربية المرأة هذا السر المكنون والكنز المدفون.
ثم انتبهت إلى الواقف أمامي وقلت: هذا ما كان من الجريمة الأولى
فما دفعك إلى الثانية. وكيف أتيتها وأنت على ما أنت؟
فأجاب وقد قدحت عيناه ناراً: رجل أهان شرفي فانتقمت منه.
عدت خطوة إلى الوراء ونظرت إلى هذا الرجل العجيب فوجدت سيماء الأبهة والعظمة تلوح على محياه كأنه أتى أمراً تحمد عقباه. تأملته وقد دفعه نزقه وطيشه إلى عمل فظيع. فقتل عمداً شاباً في ربيع العمر توهم أنه حط من كرامته ثم استأنف قائلاً:
- حكم علي بالإعدام لارتكابي الجريمة الأولى. وقد استبدلت محكمة التمييز هذا الحكم بالسجن المؤبد. على أن الدستور حمل إلي عفواً فخفض مدة سجني إلى الخمس عشرة سنة. صرفت منها تسعاً في السجن. وبقي منها ست سأقضيها وأنطلق من هذه البلاد إلى حيث أستطيع الانتقام من الحكومة والإنسانية بنشر ما لاقيت في سجني من الحيف والظلم.
ما أشقى ما فطر عليه البشر! جريمتان تهتز لهما الأبدان. ارتكبهما هذا الشقي بخلق هامد. ودم بارد. دون أن يحرك قلبه الجلمودي عامل ندامة أو شفقة. وهو يعلل النفس بالخلاص. وينتظر ساعة يستطيع بها الانتقام من العدل والقانون. فما أتعس قلب الإنسان. رحمة طلبت فيه قلبي لهذا التعس لا عدلاً. وسلاماً تمنيت له لا انتقاماً. فما العدل والانتقام مما يغير فطرة غرستها فيه الطبيعة ورضي بها الإله. وعدنا بإعطائه بعض ما يخفف به من
تعاسته. فعمدت إلى قول الريحاني وقصدت أن يشترك القلب واللسان مع اليمين في الإحسان. فدنوت منه وقلت:
- أخي! ليس ما لاقيته من الحكومة إلا قصاصاً عادلاً عما جنته