الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - بين مصر وسورية
حييت يا وطناً تصبو القلوب إلى
…
أرجائه وبه الأرواح تغتبط
شمس المعارف في علياه جامعة
…
أطرافه وهي فيما بينها وسط
ففي ذرى الأرز حبل من أشعتها
…
يلقى وحبل على الأهرام منبسط
إبراهيم اليازجي
القطران الشقيقان
حفرت معاول الفعلة ترعة السويس، فكانت كالمبضع بتر شرياناً بين عضوين في جسم واحد، طالما توارد فيه الدم صعوداً من مصر إلى سورية ونزولاً من سوريا إلى مصر. فإذا كانت سورية قد انفصلت عن مصر بثغرة لا تزيد فجوتها عن 65 متراً، فلا تقولن إن يد ده لسبس
غلبت الطبيعة. فالطبيعة لا تغالب، وإذا ما غولبت غلبت. ولكن الإنسان كان قبل مدنيته يخضع الطبيعة ويذللها، فصار بعد ازدهار المدنية يستخدم بعلمه قواها وقوتها، ولكنه يحس من نفسه أنه خاضع لتلك القوات والقوى.
إذا كان مصرائيم وكنعان قد اجتازا برزخ السويس من سورية إلى مصر، فصيرا مناقعها حقولاً، وبحيراتها سهولاً، وأكامها مدناً، وروبيها دساكر وقرى. وإذا كان توتمس وقواده قد عبروا ذلك البرزخ إلى سورية واكتسحوا الأمصار، وثلوا العروش، ونصبوا لهم نصباً على ضفة الفرات، فإن سلاتس زعيم الرعاة قد نهج نهجهم فاجتاز البرزخ إلى مصر ونصب على ضفات النيل هياكل وتماثيل. وإذا كانت عبادة الإله أودنيس والآلاهة الزهرة قد ترامت من قنن لبنان إلى هضاب أصوان، فإن عبادة الإله أوزيريس والآلاهة أيزيس قد استفاضت من شاطئ بحرية المنزلة إلى شاطئ العاصي. وإذا كان الغزاة والفاتحون قد عدوا سورية قلعة مصر، فإن الصناع والتجار الآسيويين قد حسبوا مصر مزرعة سورية، فهبطها يعقوب بأبنائه يمترون، وجاءها الفينيقيون يتجرون.
ظن الرومان أنهم إذا قالوا في الهياكل والمساجد أن ابن مصر من جالية النوبة لا من جالية فينيقيا واليمن، غرسوا في فؤاده حب الأسود الأفريقي لحسبانه أخاً، واقتلعوا من صدره حب الفينيقي والآشوري الأبيض لحسبانه غريباً. ولكن الطبيعة التي لا تخضع إلا لنظامها أبت على المصريين أن ينقادوا إلى الكتب التي قالوا لهم أنها مقدسة. على أن
لغة تلك الكتب بنبراتها ومقاطعها فينيقية سورية. بل أبت طبيعة الأرض عليهم أن يكونوا إلا أخوة السوريين لصقاء دارهم، بل أبت التقاليد الواحدة إلا أن يكونوا متحدين فلم ينل الرومان من تعاليمهم منالاً لأن كل ما يخالف ناموس التكوين والوجود فانٍ، وما ينجم عنه - وكان ثمرته - خالد باقٍ.
* * *
انقضت العصور المظلمة، وباعدت الأيام والأقدار بين اللغتين، وفرقت بين الدولتين
والإلهتين، إلى أن جمع بينهما عيسى بتعاليمه. ثم تلاه محمد بفرقانه. فازداد تفاعل القطرين واحتكاكهما، وعاد أحدهما طريق الآخر في البشارة بالدين، والفتح بالقوة. فما انبعث نور من مصر إلا ليكون وهجه في سورية، وما تلألأ ضوء في سورية، إلا ليكون أول سطوعه في مصر. وما استفاض علم في إحداهما إلا لتكون أول بوارقه في الأخرى. وذلك كان شأنهما من يوم كونتا، وذلك سيكون ما دامت الأرض على تكوينها والأفلاك على دورانها.
وإذا كانت قناة السويس قد عدت في هذا العصر ثغرة فاصلة فتحتها يد المدنية، فإن تلك اليد الفاصلة نفسها قد وثقت روابط الصلة، وأحكمت عرى التواصل بأثير الهواء وثبج الماء، فلا تعد القناة الآن فاصلاً. ومن على حافتيها يتخاطب المتقابلان، ومن فوق مائها يتصافح الأخوان ومن ذا الذي يمنع الهواء أن يهب، والماء أن يصب.
علم عبد الملك بن مروان المصريين لغة العرب فصاروا عرباً، وعلم خلفاؤه السوريين هذه اللغة فصاروا بها أخوة المصريين، فاجتمع لهم
من روابط الإخاء والوئام والاتحاد اللغة والجوار، إن لم نزد عليهما الدين. وإذا ما تفاهم الناس تحابوا، والكلمة التي تحتقرها إذا حدثت، هي التي تعلم الأمم، لأن بها يبرز الفكر جلياً للسامعين، فمن كلمته بلسانه كنت أخاه بذلك اللسان ونقلت إلى رأسه ثمار عقلك، وإلى صدره خوافي صدرك. وتأخذ منه ما عنده وتعطيه ما عندك. تتأدب بأدبه ويتأدب بأدبك، وتتعلم من علمه وتعلمه من علمك، وفكر لا يبرز بحلة الكلام وجوده كعدمه.
هكذا كان شأن البلدين بعد الفتح الإسلامي وصيرورة لغتهما لغة واحدة. فما نبت فن في أحدهما حتى جنى الآخر ثماره، وما ظهر علم أو عالم حتى كان للاثنين معاً. فإذا قلبت صفحات التاريخ، وتراجم النوابغ، ظهرت لك هذه الحقيقة ناصعة، حتى كأن حبل المدنية واللغة في القطرين سلك كهربائي، إذا ارتج طرفه في بلد ارتج سائر في البلد الآخر، وإذا أضاء مصباحاً في القاهرة، أضاء مثله في دمشق وبغداد. وإذا ما ضربت السياسة للأوطان حدوداً، فإن العلم لا وطن له وإن كان للعالم وطن. وإذا صح أن يقال بين الأمم الأخرى أن حدود الوطن باللغة، فإن هذا لا يصح بين مصر وسورية ولغتهما واحدة.
حكم محمد علي مصر وأنشأ المدارس، ونقل العلم إلى لغة العرب ليعلم مصر، ولكنه علم بلاد العرب كلها ذلك العلم وكان يكفيهم منه أن ينقله إلى لغتهم ليتفهموه. ففي رؤوس جبل
لبنان وفي أطراف سورية تجد في خزانات الكتب كتب الطب للرشيدي، والجغرافيا لكلوت بك، والفلك لمختار باشا، والهندسة لوهبي بك، والزراعة لأحمد ندى إلخ. وفي أطراف تلك
البلاد تجد أطباء شيوخاً ومهندين هرمين تلقوا العلوم في مدارس مصر.
وبدت النهضة الأدبية في سورية منذ خمسين عاماً، فانتفعت بها مصر: فصحف البستاني ومجلاته وكتبه وقواميسه ودائرة معارفه، ومؤلفات الشدياق، وكتب اليازجي، وتصانيف فانديك، ومطبوعات اليسوعيين والأمريكان وتآليفهم كانت لسورية ومصر معاً. وهذه مجلات مصر وسورية وصحف كلتيهما كأنها مجلات الأخرى وصحفها. وهؤلاء كتاب مصر وسورية وعلماؤها كل واحد منهم كاتب كلا القطرين وعالمه.
تصعد الجبل في سورية أو تهبط الوادي، فتسمع المغنين يتغنون بقصيدة شوقي، أو منظومة حافظ، وتطوف الأرجاء هنا، فتسمع الأدباء يتحدثون بمؤلفات اليازجي أو الشرتوني أو البستاني، وتطالع المجلات وفصولها فلا تجد فرقاً بين كاتب مصري ومصنف سوري. وإذا تدرجت في البحث والتنقيب ونزلت إلى صميم الشعب وحياض العامة، رأيت التقاليد بالأغاني والأناشيد والرقص والعزف واللهو والحزن والمآكل والملابس والأفراح والمآتم والأثاث والفرش وتدبير المنزل نقل بعضها أو أكثرها أو كل جديد متقن منها من بر الشام إلى بر مصر، أو من بر مصر إلى بر الشام. فهما في اللغة والرقعة الجغرافية بلد واحد وإن لم تكونا في السياسة كذلك.
فإذا كانت الزهور قد أنشئت لزيادة التعارف بين أدباء القطرين وعلماء المصرين، فإنما هي قد رمت إلى غاية جلى وغرض نبيل، قد يكون أقل منافعه سرعان التعارف والترابط بين الأدباء، حتى يزداد الشعبان نفعاً، بها، بفضل لغتهما الواحدة.
داود بركات