الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سقوط عرش
جلس الملك الفتى على عرش صبغ أرجوانه بالدماء، وتكلل بتاج غاصت جواهره بالدموع. ولا سند له ولا عضد سوى حنان والدة يحوم فؤادها حوله، كما تحوم الدجاجة حول فراخها وقد هددها العقاب الكاسر. ولكن أتى لحنان الأم - مع كل ما فيه من القوة - أن يسند تاجاً هاوياً، أو يدعم عرشاً متداعياً، وقد تحول نحوهما تيار الشعب الجارف.
ثقل التاج على هامة الملك الضعيف فأحناها، وتدحرج بين يديه فكاد يكون لهما قيداً. وثقل الملك على العرش الذي نخرته الدسائس والمكايد فهبط به هبوطاً كاد يودي بحياته.
سقط الملك مانويل الثاني وسقطت معه أسرة براغنس التي ملكت في البرتغال منذ سنة 1640 وقامت الجمهورية على أطلال الملكية. كما أن هذه كانت قد بنت صرحها على خرائب ما تقدمها من الحكومات. فإن الفينيقيين هم أول من استعمر تلك البلاد المعروفة في القدم باسم لوزيتانيا نسبة إلى اللوزيتاني الذي كان يسكنها، ثم دالت دولة أبناء فينيقيا وقامت دولة القرطجنيين فظلوا أسياد البلاد حتى برز النسر الروماني فظل فيها نافذ الأمر سبعة قرون اثنين منها قبل المسيح، وخمسة بعده، ولما لفظت الإمبراطورية الرومانية الغربية نفسها الأخير، تقاسمت الشعوب ميراثها العظيم، فكانت البرتغال من نصيب الغوطيين، حتى نازعهم الإرث طارق بن زياد وأقام في البلاد دولة عربية زهت على عهدها المعارف والفنون والصنائع. . . ثم انجلى العرب عن تلك الربوع وظلت البرتغال في حروب مع جارتها إسبانيا حتى ثبت استقلالها في أواسط القرن السابع عشر، وعظمت ثروتها، وقويت شوكتها، بعد أن راد أبناؤها البحار واكتشفوا بلاداً جديدة في أفريقيا وأمريكا.
هذا هو ماضي البلاد التي ودع مانويل عرشها على غير ملتقى، وطلق تاجها على غير رضى. على أنه لم يأت ما يجوز معه الاستشهاد بقول من قال:
أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته
…
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
فإنه ذاق حنظلاً عصره غيره، وجنى شوكاً زرعه سواه. أجلسته الحوادث على عرش مضرج بدم أبيه وأخيه، ووضعت على رأسه تاجاً لم يكن ليحلم به وها أن نفس هذه الحوادث قد أخرجته من وطنه طريداً وأقصته عن بلده شريداً.
كان مانويل على عهد أبيه كارلوس الأول لا يكترث للملك وسياسة الناس بل كان مولعاً
بالفنون الجميلة لأن ولاية العهد كانت لشقيقه لويس فيليب ده براغنس، ويروى عنه قوله عندما أنعم الملك إدوارد على أخيه بوسام ربطة الساق: إن أخي فرح مسرور بهذا الشرف الذي حازه ويحق له ذلك لأن له مطامع سياسية أما أنا ففرحي الكبير سيكون يوم أتمكن من إدارة جوقة موسيقية. وقد حمله ولعه بالفنون على زيارة البلاد القديمة فجاء اليونان ومصر وفلسطين. وبينما هو في مثل هذه الأحلام الجميلة باغتته ثورة فبراير (شباط) 1908 فأودت بحياة أبيه وأخيه وأجلسته على العرش. فحاول أن يسد الثلم التي أحدثها أسلافه. ولكن هيهات لابن عشرين أن يرمم أطلال مملكة بالية ويوقف معاول الزمان التي تدكها، وقنابل الأيام التي تنسفها.
لما ضعفت شوكة العرب في الأندلس، تغلب الإفرنج على أحد ملوكها ففر هارباً، وقبل مغادرته بلاده نظر إلى قاعدة ملكه وبكى. وكانت أمه معه فقالت: ابك بكاء النساء على ملك لم تعرف أن تدافع عنه دفاع الرجال.
فهل قدرت الملكة آمليا أن تقول مثل هذا القول لولدها مانويل عندما ودع بلاده باكياً.
أرملة كارلوس الأول ملك البرتغال المتوفي ووالدة الملك مانويل الثاني، وهي بنت الكونت ده باريس وشقيقة الدوق دورليان، ولدت في 28 سبتمبر سنة 1865 وتزوجت في 22 مايو سنة 1886، فولد لها ولدان لويس فيليب الذي قتل مع أبيه في غرة فبراير سنة 1908، والملك مانويل الذي هرب معها الآن إلى إنكلترا