الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصف مصر
في منتصف القرن الغابر زار مصر الكاتب الشهير فارس الشدياق وكتب عنها فصلين ضافيين نشرهما في كتابه الساق على الساق في ما هو الفارياق المطبوع في باريس سنة 1855م و1270 هجري على نفقة المرحوم رافائيل كحلا الدمشقي. وعنهما نلخص ما يأتي. وسيرى القارئ أن أكثر هذه الملاحظات لا يزال منطبقاً على أيامنا هذه. قال:
مصر بلد الخير، ومعدن الفضل والكرم، أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب، وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب. إذا حيوك فقد أحيوك، وإن سلموا عليك فقد سلموك. وإن زاروك زادوك شوقاً إلى رؤيتهم، وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلاً عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد انتشر في الآفاق، وفات فخر من سواهم وفاق،
بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه. . . وكأن حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر، فإن لعامتهم أيضاً مخالقة ومجاملة. وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام السريع والجواب، حلو المفاكهة والمطارحة. وكلهم يحب السماع واللهو، وغناؤهم أشجى ما يكون، فلا يمكن لمن ألفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها. ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات، غير أني أذم من غنائهم شيئاً واحداً، وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال مراراً متعددة حتى تفقد السامع لذة معنى الكلام. ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن. بعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس. . .
أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعز والفخر والكرم والمجد، فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسى والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها. . .
ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف، وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم كانت الأسعار في مصر رخيصة جداً. فلهذا كنت ترى الناس قصريهم وعميهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف، ومحال القهوة مجمع للأحباب، والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج، والنساء ينؤون بما عليهن من الحلي، والخيل
والبغال والحمير
مسرجة ومكسوة بالحرير المزركش. . .
والغريب يجد في مصر ملهى وسكناً، وينسى عندها أهلاً ووطناً. . . ومن خواصها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدباً وكياسة، وشمائل مرضية، وأخلاقاً زكية. وأسواقها عارية عن ذلك رأساً.
ومن خواصها أيضاً أن البرنيطة فيها تنمى وتعظم. وتغلط وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق. . . وكثيراً ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف أنمى هواء مصر هذه البرنيطة وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش. ولا توازن ناقورة الفراش. وكيف كانت هناك كالترب، فأصبحت هنا كالتبر. . . يا هواء مصر يا نارها يا ماءها يا ترابها صيري طربوشي هذا برنيطة، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس فلم يغن عني النداء شيئاً وبقي رأسي مطربشاً، وطرف دهري مطرفشاً.
ومن خصائصها أيضاً أن البغات بها يستنسر والذباب يستقصر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.