الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أملي
في هزيع ليل من ليالي الخريف وقد نبا بي مضجعي، تحاملت متماسكاً متمالكاً إلى نافذة من مخدعي، أرسل صعداء أحرجت صدري، وأعالج نجية هم أسهرتني. وكانت الليلة قمراء والهواء بليلاً بطيء الإسراء، والسكوت سائداً مالئ العمار والخلاء، لا داب يمرح ولا طائر يسيح، وقد هجع الناس آمنين في أسرابهم، ونام الخليون ملء أجفانهم، فلا يسمع غير حفيف الأشجار، ووقع الأوراق تتساقط من على الأغصان تساقط دمع حزين جازع أو عاشق ضارع تساقطاً له رجع لطيف عذب شجي اضطرب له الوجدان فتحركت الأشجان، كأنما يد الحنان طرقت أبواب الفؤاد، أو أن أنامل الصبابة تمشت على أوتار الجنان. فشعرت من نفسي استئناساً بتلك الوحشة، وارتياحاً إلى تلك العزلة، كأن بينهما حديثاً يتساقطانه أو نجوى يستسرانها ولكنها نجوى ليست من لغة يراع أو إنشاد شاد، إنما هي ذات لغة طلية عذبة حلوة لا تدركها غير مشاعري ولا يفهمها سوى فؤادي.
فلبثت أنتقل ببصري إلى ما حوت الأرض من كائنات مرئية، والسماء من أجرام فلكية ولكل منها مع النفس نجوى تطربها، وسمر لطيف يشجيها. حتى قضى بي التجوال إلى البدر، وقد برز من خبائه بعد طول الصبر. وأقبل سابحاً في فضاء السماء، جائلاً بين بدائع الأفلاك بعزة وخيلاء تحيط به النجوم احتراماً وإجلالاً، وتتمشى الكواكب بخدمته
إدباراً وإقبالاً، متدججاً بسلاح نوره يروش سهام أشعته، ممزقاً بها حجاب الظلام مظهراً ما خفي وراءه من سهول وأعلام.
رويدك يا شبه الحبيبة فالجوى
…
أضاع رشادي إذ رأيتك سارياً
رويدك قد حركت ساكن لوعتي
…
وأرسلت دمعاً فوق خدي جارياً
رويدك في تعجيل طلعتك التي
…
جعلت فداها الروح مني وماليا
رويدك دعني أملأ العين من بها
…
سناك لعلي لا أذم اللياليا
نظرت إليه نظراً ملياً وتصفحته تصفحاً جلياً كأنه أدنى عائنة إلى ناظري، وأقرب الكائنات لمساً من يدي، فالفيت شأنه شأني وقد ألفت نظره أمري فتلاقت العيون بالعيون وراحت الأحداق هائمة في الأحداق تخترق أهداب الجفون. . . حتى أسفر وجهه الصبيح عن ابتسامة خفق لها الفؤاد منبسط الجوارح، ونزعت إليها الروح من بني الجوانح.
مضى حين وأنا منصت إليه وهو منصت إلي؛ أستمع لنجواه ويستمع لنجواي وإذا بغيمة
سوداء هاجمته وهو في غفلة عنها، وحالت بين وبينه مكتنفة إياه بجناحيها، فكئبت لذلك كآبة من أصيب بفراق نسيبه أو فجع بفقد حبيبه، ولا نسب بيننا غير ائتلاف العواطف ولا حب سوى أن بهاءه أشبه بهاء من أنا شاغف، وإن لم تكن عواطفه على شيء من السحر، أو أن بهاءه من بهاء بدري. فتطلعت إليه أتشوقه في مجراه، وأتبين بعد الاختفاء ما اعتراه، فلمحته حيران هائجاً، وهو مع الغيمة في عراك، ومنها في أحبولة وشراك، وكان ذلك الشراك على صدري الحرج نسيجاً من خيوط الأوهام، أو ستراً لبسته فتخرمته نصال السهام.
لبثت طويلاً متصبراً، وربما كان لبوثي قصيراً وأنا لم أدر، حتى تلعلعت السماط وبان البدر وهو بعدوته يزري، ونظر إلي فألفاني كما عهدي مشوقاً متشوفاً إليه، ورأيته كما عرفته يتألق ضوء البشر من بين عارضيه.
عاد البدر إلى ما كان عليه وعدت. وسار في سمره وسرت.
وإني لأرتشف خمر السرور صراحاً من يد ذلك الموقف، وقد أطلقت للعواطف والشعور سراحاً، إذ بغيمة أشد من الأولى حقداً وأعظم منها سواداً دنت منه تناصبه العداء وتكلفه الجلاد.
هذا ومازالت جيوش الغيوم تارةً تتشتت تحت سهامه فتنخزل أمامه أو تجانبه، وطوراً تتألب عليه ثائرة متضامنة تواثبه، وهو يتنفس جيناً فيظهر للعيان في مظهر التعب الخاثر ثم ينساب في العجاج متوارياً وراء الغبار المتطاير وكلما ظن أنه ناجٍ أدركته غيمة رجعت به إلى الميدان قسراً فيعود إلى المدافعة عن نفسه مكرهاً مضطراً.
هكذا شاء القدر أن أتجرع الكأس بعد أن ترشفتها، وأكره النفس على الصبر بعد أن أطعمتها، حتى كان عبس الليل وقد غاب البدر تحت غيوم انحدرت عليه انحدار السيل، فلم ير غير فضاء داج ظلامه، وعمار موحشة أعلامه، انكفأت إلى مضجعي حزيناً كئيباً اسمع زفزفة الأوراق تتساقط من على الأشجار فكان لها هزة في النفس ورجفة في الفؤاد أطبقت عيني تحت ثقل اليأس وستر الانكسار. . .
أملي هو البدر والغيوم هي كوارث الدهر وظلمة الليل هي ظلمة القب. . .
لا لا أملي يا ناس!
فيليب مخلوف