المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قلعة الشهباء هي قلعة شامخة الذرى أكب عليها الدهر وانزلها في - مجلة «الزهور» المصرية - جـ ١

[أنطون الجميل]

فهرس الكتاب

- ‌أَنْطُون الْجُمَيِّل

- ‌أمين تقي الدين

- ‌نشأته وحياته

- ‌صفاته ومميزاته الشعرية

- ‌بين الوجدان .. والوطن

- ‌الشاعر في أقلام الآخرين

- ‌مجلة الزهور

- ‌أمين تقي الدين

- ‌مصر الأدبية

- ‌أنطون الجميل

- ‌مصر وسوريا

- ‌المطارحات الشعرية

- ‌مطارحات نثرية

- ‌طرائف شتى

- ‌تراجم الراحلين

- ‌مقالات أخرى

- ‌بلاغة الحذف

- ‌العدد 1

- ‌ما هي هذه المجلة

- ‌السباق الشعري الكبير

- ‌السباق النثري الكبير

- ‌حج الخديوي عباس حلمي وقصائد المدح فيه

- ‌الصحافة والصحافيون

- ‌نكبة باريس

- ‌الغد

- ‌ساعة الوداع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌حديقة الأخبار

- ‌أيها القارئ العزيز

- ‌العدد 2

- ‌نظرة إلى ما فوقنا

- ‌عجائب غرائب

- ‌عنترة وعلبة

- ‌بذور للزراعيين

- ‌في رياض الشعر

- ‌في حدائق العرب

- ‌أول ممثل شرقي

- ‌في جنائن الغرب

- ‌روزفلت في وادي النيل

- ‌النظرات والريحانيات

- ‌أشواك وأزهار

- ‌من الإدارة

- ‌العدد 3

- ‌نطاق العالم البحري

- ‌نبوكدنصر الشحاذ

- ‌حملة الأقلام في بر الشام

- ‌ملكة الجمال

- ‌في رياض الشعر

- ‌بين شعراء مصر والشام

- ‌في حدائق العرب

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الأميران في سورية

- ‌ثمرات المطابع

- ‌جمالان في معرض

- ‌أزهار وأشواك

- ‌حديقة الأخبار

- ‌العدد 4

- ‌الكلمات الأجنبية

- ‌رجوع الحبيب

- ‌القطران الشقيقان

- ‌ما هو الشعر

- ‌في جنائن الغرب

- ‌بين عرش ونعش

- ‌في رياض الشعر

- ‌أفكار وآراء

- ‌في حدائق العرب

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌فكاهة

- ‌كيف نقضي العمر

- ‌حديقة الأخبار

- ‌من وإلى القراء

- ‌العدد 5

- ‌النهضة الأدبية في العراق

- ‌أيها الفن

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في حدائق العرب

- ‌من القفص إلى العش

- ‌في رياض الشعر

- ‌الكلمات الأجنبية

- ‌ثمرات المطابع

- ‌مصر وسورية

- ‌أزهار وأشواك

- ‌حديقة الأخبار

- ‌من وإلى القراء

- ‌العدد 6

- ‌مصر وسوريا

- ‌1 - مصر

- ‌فرعون وقومه

- ‌آثار مصر

- ‌النيل

- ‌وفاء النيل

- ‌الأزبكية

- ‌وصف مصر

- ‌نابليون بونابرت في مصر

- ‌2 - سوريا

- ‌بيروت ولبنان

- ‌ذكرى لبنان

- ‌شمالي لبنان

- ‌صنين

- ‌طرابلس الشام

- ‌يافا

- ‌قلعة الشهباء

- ‌وصف دمشق

- ‌الجامع الأموي

- ‌ملكة الصحراء

- ‌نهر الصفا

- ‌قلعة بعلبك

- ‌3 - بين مصر وسورية

- ‌القطران الشقيقان

- ‌تحية الشعراء

- ‌الحركة الأدبية

- ‌العدد 7

- ‌غلاء المعيشة

- ‌في رياض الشعر

- ‌الحمل والذئب والليث

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌المال والجمال

- ‌الخريف

- ‌الكلمات الأجنبية والعامية في اللغة العربية

- ‌حالة آداب العرب

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الوصايا الصحية

- ‌في حدائق العرب

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌بين هنا وهناك

- ‌من وإلى القراء

- ‌العدد 8

- ‌العمال والحكومات

- ‌كيف ترتقي

- ‌الحرية

- ‌مصطلحات علم الحيوان

- ‌في رياض الشعر

- ‌سقوط عرش

- ‌في حدائق العرب

- ‌أملي

- ‌في جنائن الغرب

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌سلوقية غير اللاذقية

- ‌العدد 9

- ‌هنري دونان

- ‌نفثة مصدور

- ‌العمال في الهيئة الاجتماعية

- ‌في رياض الشعر

- ‌في جنائن الغرب

- ‌المرأة العصرية

- ‌في حدائق العرب

- ‌تاريخ المهاجرة وأسبابها

- ‌بين جدران السجون

- ‌أزهار وأشواك

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌حديقة الأخبار

- ‌العدد 10

- ‌بين الأعياد

- ‌الانتخابات الإنكليزية

- ‌هواجس النفس بين العامين

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌في رياض الشعر

- ‌إحياء الآداب العربية

- ‌في جنان الغرب

- ‌الكلمات الأجنبية والعامية

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌بين هنا وهناك

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌العدد 11

- ‌المتاجرة بالرقيق الأبيض

- ‌الشيخ صالح التميمي

- ‌المرأة العصرية

- ‌إحياء الآداب العربية

- ‌مصر الأدبية

- ‌المراسلات السامية

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌ختام السنة الأولى

- ‌أحسن قصيدة وأحسن مقالة

الفصل: ‌ ‌قلعة الشهباء هي قلعة شامخة الذرى أكب عليها الدهر وانزلها في

‌قلعة الشهباء

هي قلعة شامخة الذرى أكب عليها الدهر وانزلها في الحضيض والسفال، فعادت أطلالاً بالية ورسوماً دارسة وخرباً صامتة، تحدث الورى بعظمة الجدود وتناجي النفوس بقدرة الخالق في الوجود والكائنات.

عندها تقف الألوف طويلاً بين متنزه يلهو بالمادة، ومفكر يدرس في كتاب الوجود، ومعتبر يتأمل بمصير الأمور، ومهندس يشتغل بالمقادير والأشكال، وراوٍ محقق يستنطق الآثار ليسجلها ذكرى وعبرة للآتين والكل لا يجسر أن يلفظ كلمته الأخيرة في واضع أسسها ورافع أبراجها.

على ممرها اللاحب جرت الغزاة غازياً إثر غازٍ، وتدفقت الأجناد فيلقاً تلو فيلق، متسابقين متزاحمين متدافعين بين مشتبك القنا وعلى صليل السيوف، وتحت مثار العثير، وعلى هتاف الظفر ونحيط الذعر والاندحار إلى. . . مجد النصر ومجد الفتح. إلى. . . هوة الأبدية ولهوات العدم.

فوق حصونها الهائلة كم بكت من مقل وكم سالت من دماء، وكم تحققت من

ص: 286

آمال وكم خابت من أماني، وكم انحطت من عروش وكم انعقدت من تيجان، وكم استرسلت من نفوس إلى الحياة. . . إلى الخلود. حتى انهزم الوهم مطارداً أمام الحقيقة كما ينهزم الظلام أمام الصبح وتطارد الذرات أمام الرياح الزعازع.

في ثنايا بقايا الرميمة تختبئ معلولات الدهور من بابل إلى آشور إلى مصر. ومن مكدونية إلى رومية إلى بزنطية. ومن العرب إلى الجراكسة إلى الأتراك. من قرون الظلمة إلى أعصر النور، وحب السؤدد وحب الأنانية دافع إلى تنازع البقاء. إلى تنازع الإثرة. والدنيا ملأى بالتناقض والشر والأباطيل.

على أبوابها وحناياها نقشت الأجيال أسطراً من مثل المؤيد والمظفر والماجد والمرابط والعالي المولوي والأميري الشمسي وسيد الملوك وغياث الدنيا والدين ومحيي العدل في العالمين، إلى ألفاظ أخرى ألهوا بها المادة وعبدوا أميالها وقدسوا فظائعها فحرقوا لها بخور الضمائر والشواعر فيا للغرور ويا للجهالة. . .!

من أنقاضها التي بعثرتها أيدي الأحداث وجدرانها التي داستها أرجل الأجيال وأنفاقها المنحنية تحت وطأة السنين صدى يتردد في فضائها ويتجاوب في أنحائها فيروي تلاطم

الأهواء واصطدام المطامع وما جر احتكاكها والتحامها على الإنسان من الولايات والمصائب. . .

هنا معقل شادته أيد طامعة في الخلود، وهنا هيكل تعبدت فيه نفوس فطرت على التدين، وهنا عقول غشى عليها الجهل فما أدركت من صفات الألوهية سوى العظمة والجلال، وهنا غمارات وقفت على هذه الخرائب وقوف الحياة على شفير الموت، وهنا حلقات من سلسلة الإنسان مرت أمامها كمرور الأيام الأبد القائم.

عقب الجبلة الصمت العميق، وتلا الضجة السكينة البالغة، فلا يقلقها إلا حفيف أجنحة الطير ولا يزعجها غير وقع أرجل الحشرات، وفي هذا الليل الأبدي والجمود المطلق تبدو الحقيقة الأزلية جلية من خلال زخارف العصور، وتنجلي الحكمة السرمدية بسنائها المتألق الباهر من طيات طبقات الأجيال المتلاشية.

لفتة إلى هذه الآثار، وقفة على هذه الأطلال، وتأمل معي ببقية عادية

ص: 287

طرقتها بوائق الدهور. فعندها تتضاءل الطبيعة دون العلة الأولى القادرة، ومن ورائها تبرز المبادئ السامية بروز الغزالة وهي تواسي البشرية المتألمة وتعزيها في بهرة ارتماضها وتعاستها وتمزق عن أبصارها الحجب الكثيفة المنسدلة على غايتها الأخيرة.

فهي الآن كالجبار المسجى بأكفانه البيضاء، أو كالمستغرق في منامه المسرور بأحلامه، فلن تستيقظ من رقدتها الأبدية. وقد كانت كالحارس الموكل إليه الأمن والمناضل عن الملك والقطين. فباتت كالخطيب المنذر بالقضاء المنبئ عن المنقلب والزوال، فيعرف منه الحي العاقل حقارة البقاء ويتحقق كاذب الآمال.

ومنها صوت الطبيعة يرن في أودية القلوب بما يحققه الاختبار أن المركب إلى انحلال وأن الحيوة كالظل والخير السائر، أو كالسفينة الجارية على الماء المتموج التي بعد مرورها لا تجد أثرها ولا خط حيزومها في الأمواج، أو كالطائر يطير في الجو فلا يبقى دليل على مسيره. يضرب الريح الخفيفة بقوادمه، وشق الهواء بشدة سرعته ورفرفة جناحيه ثم لا تجد لمروره من علامة، أو كسهم يرمى إلى الهدف فيخرق به الهواء ولوقته يعود إلى حاله حتى لا تعرف ممر السهم (سفر الحكمة 5: 9). . . . وقد خطت فوقها يد الأجيال بأحرف من نور (هو الحي الباقي).

* * *

من البائن المعروف أن القلعة الموصوفة قد كانت في طرف حلب ينحدر من جنوبها سور يحيط بالمدينة وينتهي طرفه إلى جانب القلة الشمالي وهذا السور كان يعرف بالرومي لبناء الروم له ويشتمل على 128 برجاً ضخماً بقي بعض أبرجة منها إلى أواخر القرن الماضي. فأمر جميل باشا المشهور بهدمها فهدمت عن آخرها.

والقلعة الآن في أواسط المدينة وهي قائمة على ربوة صناعية راكمتها الأيدي، وشادت فوقها القلعة على شكل هرمي أو هيئة إهليلجية يبلغ قطر قمتها 50 متراً ومحيط قاعدتها 400 مترو تعلو عن سطوح المنازل المحاذية لها 60 متراً وعن سطح البحر 500 متر وفي أعلى القلعة منارة مسجدها الجامع ترتفع عن سطحها 40 متراً.

وجوانب القلعة مسفوحة رصفها الملك الظاهر بالحجارة الهرقلية المنحوتة والآن

ص: 288

قد استولى الخراب على أكثرها. ومن حولها خندق واسع منقور في الصخر الأبيض يفصل القلعة عن الأبنية المجاورة لها ويغمر عند الحاجة بالمياه فيتعذر على الجيش المحاصر اجتيازه. وفي قمتها سور يحيط بها كأنه الإكليل يعصب هامها قامت فوقه بروج ومرام كان الجنود يرمون منها العدو المهاجم بأصناف القذائف والسهام وهذا السور قد تهدم فلم يبق منه إلا القليل قائماً ينبئ عن عظم شانه وضخامة بنيانه.

وعلى جانبي القلعة الجنوبي والشمالي برجان هائلان مربعا الشكل شادها الأمير سيف الدين جكم ولما خربا جدد بنيانهما الملك الأشرف قانصوه الغوري في سنة 914 - 915 هجري وهما الآن أصلح حالاً من سائر أبنية القلعة التي استولى عليها الخراب والدمار إلى حد التعطيل الفاحش والتشويه الشنيع.

ولا يصعد إلى هذه القلعة إلا من جهتها الجنوبية ومدخلها متقن الصنعة عجيب البنيان يجتازه الداخل على جسر ممتد إلى المدينة يستند على ست حنايا ضخمة مرتفعة. وعلى باب المدخل برجان على جانب من المناعة والضخامة وعليهما نقوش بديعة تزينهما وعلى طولها كتابة عربية من الخط النسخي المملوكي، تبهر النظر وتستلفت الخواطر، يستفاد منها أن السلطان خليل بن قلاوون أمر بعمارة هذا المدخل بعد إهماله وإشرافه على الدثور في سنة 690 هجري (1291م).

ولهذا المدخل عدة أبواب يتخللها دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة، وكان لكل باب اسفسلار ونقيب وأماكن لجلوس الجند وأرباب الدولة، وعلى هذه الأبواب نقوش وكتابات عديدة جميلة تخلب الألباب ومن حولها شرفات ومرام لآلات الحرب وأدوات الكفاح تزيد هذا المدخل العجيب رونقاً وجمالاً.

وإذا تجاوز الداخل باب المدخل صاعداً إلى القلعة وماراً بالأبواب والدركاوات الواسعة المعابر كثيرة الزوايا المستقيمة، ينتهي إلى الباب الأوسط فيرى على طرفيه ثعابين طويلين يلتفان على بعضهما وفي أعلاه كتابة جميلة مآلها أن الملك الظاهر

ص: 289

غياث الدين غازي هو الذي حصن القلعة وشاد على مدخلها البرجين السابق ذكرهما وجعل له ثلاثة أبواب من حديد. ولما ينتهي الداخل إلى الباب الأخير يرى على جانبيه أسدين عظيمين ناتئين، وإلى الجانب الأيمن مزار يعزى إلى الخضر وكان ينسب للخليل (إبراهيم) يقصده بعض المسلمين، بالنذور والهدايا.

ومتى بلغ الداخل قمة القلعة يبدو له صحتها مركوماً بالأتربة والحجارة الضخمة ويرى أبرجة متهدمة وحنايا متشعثة وشرفات متداعية، أفنى عليها الدهر فدرست محاسنها وتعطلت زخارفها. وفي أواسط قمتها باب الجامع وعليه أنواع الوشي والنقوش العربية. وعلى جانبها الجنوبي دار العز أو دار الشخوص لكثرة ما كان فيها من التماثيل والزخارف وفي صحنها ركام من القنابر القديمة ومنها يدخل إلى ناد للملك الظاهر طوله الشمالي 25 متراً في عرض 7 أمتار وطوله الجنوبي 25 متراً في عرض 15 متراً، وفي صدره نافذة كبيرة مستطيلة مربعة تطل على المدخل والمدينة وإطارها تطاريفها الخارجية دقيقة الصنعة محكمة النقوش يروق العين منظرها.

وفي أواسط قمة القلعة منحدر مسدود الآن كان ينزل منه إلى أنفاقها السفلية حيث كنيسة النصارى باقٍ بعض رسومها ماثلة من مثل حنية الكاتدرا وأعمدة وحنايا أخرى. وإلى جانبها الغربي مخازن حديثة البناء تحوي أصناف الذخائر والأدوات الحربية وإلى جانبها بئر الماء المعروفة بالساتور كان ينحدر إليها ب 125 درجة وعمقها الآن 47 متراً. وذلك كله لا يناسب المدخل في شيء من حسنه ونقوشه وتصاويره وكتاباته المختلفة.

ومن قمة القلعة تنكشف لك المدينة مركومة بعضها فوق بعض ومن أعلى منارتها ينبسط

نظرك إلى مدى بعيد تجد منه منظراً بديعاً فاتناً يترك في النفس أثراً من السرور والانبساط وترى ما يكتنف حلب من الغياض والرياض الخضراء والسهول الخصيبة الواسعة وما يحيط بها من الربى والتلال إحاطة الهالة بالقمر أو السوار بالمعصم كأنها الحصون والمعاقل تحصنها وترد عنها الغارات العشواء.

* * *

ص: 290

ذهب غالب مؤرخي العرب إلى أن أول من بنى القلعة سلوقوس الأول الملقب بنيقاطور أحد قواد الإسكندر الذي ملك على سورية سنة 301 قبل المسيح. وارتأى أهل التحقيق أن بناتها الحثيون الذين استولوا على سورية الشمالية في القرن السابع عشر (ٌ. م) واستندوا إلى ما خلفه هذا الشعب القوي من الكتابات والتماثيل والرسوم العديدة في هذه النواحي، واستدلوا فيما استدلوا عليه بما بين هذه القلعة وبين قلاع حمص وحماه وحارم من التشابه العظيم.

والحق يقال إن سلوقوس أصلح القلعة فقط، لما رمم بحلب بعض الترميمات، وبنى فيها أبنية جديدة وأطلق عليها اسم بيريا أو باروا. ولما فتحها كسرى أنوشروان وشاد سورها بنة في القلعة مواضع.

وعندما فتح ابن عبيدة حلب كانت قلعتها مرممة الأسوار بسبب زلزلة أصابتها قبل الفتح فأخربت أسوار البلد وقلعتها ولم يكن ترميمها محكماً فنقض بعضه وبناه. وعنى بها بنو أمية وبنو العباس فتركوا فيها آثاراً ولما هاجم نيقفور ملك الروم حلب سنة 351 هجري امتنعت القلعة عليه وكان قد اعتصم بها جماعة من العلويين والهاشميين فحمتهم، ولم يكن لها يومئذ سور عامر فكانوا يتقون سهام الروم بالأكف والبرادع.

ولما تولاها الأمراء الحمدانيون بنى فيها سيف الدولة وابنه سعد الدولة مواضع وكذلك شاد بها بنو دمرداش دوراً وجددوا أسوارها وكذلك عني عماد الدين آق سنقر وولده عماد الدين زنكي بتحصينها وكذلك بنى بها طغتكين برجاً من جنوبها وخزناً للذخائر وكذلك شاد فيها نور الدين زنكي أبنية كثيرة.

ولما ملكها الملك العادل سيف الدين الأيوبي بنى بها برجاً وداراً لولده فلك الدين. ولما ملكها الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وبنى فيها مصنعاً للماء ومخازن للغلات وسفح

تلها ورصفه بالحجر الهرقلي وأعلى بابها وجعل له جسراً ممتداً منه إلى البلد، وجعل للقلعة ثلاثة أبواب من حديد وبنى فيها داراً عرفت بدار العز قامت على دار للملك نور الدين زنكي كانت تسمى دار الذهب ولما احترقت سنة 609 هجري جدد بنيانها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.

ص: 291

وفي سنة 622 هجري (1225م) تهدم منها عشرة أبراج مع بدنياتها فاهتم الأتابك شهاب الدين طغرلبك بعمارتها من أسفل الخندق إلى قمتها. وفي سنة 628 هجري (1230م) هاجمها التتر وهدموا أسوارها واستلبوا ما كان بها من الذخائر والمجانيق. وفي سنة 659 هجري (1260م) أعادوا الكرة إليها فأخربوها خراباً شنيعاً، وأحرقوا المقامين فيها حتى لم يبق فيها من مكان للسكنى كما قال ابن الخطيب.

واستمرت القلعة خراباً إلى أن جدد عمارتها الملك الأشرف خليل بن قلاوون على ما سبق ذكره وذلك في سنة 690 هجري (1291م) ولما فتح تمرلنك حلب في سنة 803 هجري (1400م) استباح القلعة نهباً وحرقاً فاستمرت أيضاً خراباً إلى أن جاء الأمير سيف الدين جكم نائباً إليها من قبل السلطان فرج بن برقوق في سنة 807 هجري (1404 م) فأمر ببنائها وألزم الناس بالعمل فيها حتى عمل بنفسه واستعملوا جوه الناس، بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على متونهم. وبنى البرجين اللذين على باب القلعة وبنى على سطحهما القصر المائل الآن وذلك سنة 809 هجري وبنى البرجين اللذين في سفح القلعة من جنوبها وشماليها (وقد سبق وصفهما).

ولما تمرد علي باشا جان بولاد على الدولة العلية سار مراد باشا لقتاله وإخضاعه في سنة 1017 هجري (1607م) وتبع آثاره وحاصر المدينة فافتتحها وأقام المنجنيقات على القلعة وراسل رؤساء المحافظين عليها واعداً إياهم بمناصب وخلع، فاغتروا بها وسلموه القلعة، فقتلهم عن آخرهم وفر جان بولاد إلى الأستانة طائعاً وقبل سنة 351 هجري (962م) لم يكن سورها محكماً ولم يكن مقام الملوم بها فاهتم بعد ذلك من تولاها من الملوك والأمراء بعمارتها وتحصينها وعصي فيها فتح القلعة على مولاه مرتضى الدولة لؤلؤ ثم سلمها إلى نواب حلب، فعصي فيها أيضاً عزيز الدول فاتك على الحاكم إلى أن قتل بها فصار الملك الظاهر وولده المستنصر يوليان والياً بالقلعة وآخر بالمدنية خوفاً من أن يجري ما جرى

من عزيز الدولة. فلما ملك بنو دمرداش حلب سكنوا في القلعة وجرى مجراهم من جاء بعدهم من الملوك والأمراء.

ووصفها رهط من أهل الرحل والجغرافية من مثل ابن حوقل الذي اشتهر سنة

ص: 292

367 هجري (977م) فقال إنها غير طائلة ولا حسنة العمار وشمس الدين المقدسي نحو سنة 375 هجري (685م) فذكر منها، سعتها ومناعتها وما فيها من خزائن السلطان وابن الطيب السرخسي في رحلته سنة 271 هجري (884م) فذكر سورها وبئرها التي ينزل إليها في 130 مرقاة ودير النصارى فيها وابن بطلان البغدادي في سفرته سنة 440 هجري (1048م) فذكر منها مسجدها وكنيستها إلى غير هؤلاء ممن أجمعوا فيها على ما قاله الرحالة ابن جبير والمسفار ابن بطوطة من امتناعها وارتفاعها ومطاولتها الأيام والأعوام، وقد قال فيها الخالدي شاعر سيف الدولة:

وخرقاء قد قامت على من يرومها

بمرقبها العالي وجانبها الصعب

يجر عليها الجو جيب غمامة

ويلبسها عقداً بأنجمه الشهب

إذا ما سرى برق بدت من خلاله

كما لاحت العذراء من خلل السحب

فكم من جنود قد أماتت بغصة

وذي سطوات قد أبانت على عقب

روى بيشوف الجرماني في تاريخه عن أحد حاخامي اليهود قال: إنه رأى في القلعة كتابة عبرية مفادها (أنا يواب بن سرويا أخذت هذه القلعة). . . ويواب هذا تولى قيادة جيوش داود في سنة 1055 ق. م فإذا صحت هذه الرواية كانت هذه الكتابة أكثر قدمية من سائر كتابات القلعة، ورجحت ما قاله المحققون من أنها من بنايات الحثيين. وأما الكتابات الباقية فهي عربية لا تتعدى القرن السبع للهجرة.

وقد كان يتولى حراسة القلعة نفر من الشعب ويعرفون حتى الآن ببيت القلعجي إلى أن انقرضت وجاقات الإنجكارية وانتظمت أحوال العسكرية، فتولت المحافظة عليها إلى أن عاد أمرها في هذه السنة إلى رجال الملكية. وقد تعاقبت عليها الرجوف والزلازل مرات عديدة يطول إيرادها وآخرها في سنة 1822 وسنة 1872، فتشعثت أسوارها وتهدمت أبراجها، وأصبحت أخربة دارسة وأطلالا بالية. وقد أهمل أمرها من عهد بعيد فعادت إلى ما تشاهد عليه الآن مما سبق وصفه في هذه المقالة فسبحان من بيده تصريف الأمور وإليه

المصير.

القس جرجس منش

ص: 293