الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حدائق العرب
الوفاء والحب
جلس معاوية بن أبي سفيان يوماً في مجلس له بدمشق وكان الموضع مفتح الجوانب الأربعة، وكان اليوم شديد الحر لا نسيم فيه. فإذا برجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيته حافياً. فتأمله معاوية وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت؟ - فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين - فقال والله لئن كان قاصدي لأجل شيء، لأعطينه واستجلب الأجر به، أو مظلوماً لأنصرنه. يا غلام، قف بالباب، فإن طلبني هذا الأعرابي فلا تمنعه من الدخول علي. فخرج فوافاه. فقال: ما تريد؟ - قال: أمير المؤمنين - قال: ادخل. فدخل فسلم. فقال له معاوية: ممن الرجل؟ - قال من تميم. قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ - قال: جئتك مشتكياً، وبك مستجيراً - قال: ممن؟ - قال: مروان بن الحكم عاملك - قال: اذكر لي قصتك وأبن عن أمرك. فقال:
يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محباً وبها كلفاً، وكنت بها قرير العين طيب النفس. وكانت لي جذعة من الإبل أستعين بها على قوام حالي وكفاية أودي. فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر. فبقيت لا أملك شيئاً. فلما قل ما بيدي وذهب مالي وفسد حالي، بقيت مهاناً ثقيلاً على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي، وأزور من لا
يرغب في زيارته. فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المآل، أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجياً لنصرتي. فلما أحضر أباها وسأله عن حالي، قال: ما اعرفه قط - فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها. ففعل، وبث خلفها، فلما حضرت بين يديه، وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصماً، وعلي منكراً، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء أو استهوت بي الريح في مكان سحيق، ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن إخلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل، وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني، ونظر إلي كالأسد الغضبان وقال: طلق سعاد - فقلت: لا. فسلط علي جماعة من غلمانه، فأخذوني
يعذبونني بأنواع العذاب، فلم أجد بداً من طلاقها، ففعلت فأعادني إلى السجن ومكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني. وقد أتيتك راجياً، وبك مستجيراً، وإليك ملتجئاً، وأنشد يقول:
في القلب مني غرام
…
للنار فيه استعار
والجسم مرمي بسهم
…
فيه الطبيب يحار
وفي فؤادي جمر
…
والجمر فيه شرار
والعين تهطل دمعاً
…
فدمعها مدرار
فليس إلا بربي
…
وبالأمير انتصار
ثم اضطرب واصطكت لهاته، وصار مغشياً عليه وأخذ يتلوى كالحية
فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين، وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم كتاباً يقول فيه: إنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان والياً أن يكف بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته. ثم كتب كلاماً طويلاً منه:
وليت أمراً عظيماً لست تدركه
…
فاستغفر الله من فعل امرئ زان
إن أنت خالفتني فيما كتبت به
…
لأجعلنك لحماً بين عقبان
طلق سعاداً وعجلها مجهزة
…
مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
ثم طوى الكتاب وطبعه، واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم وسلما عليه وسلما الكتاب إليه. فصار يقرأ ويبكي. ثم قام إلى سعاد وأعلمها بالأمر. ولم يسعه مخالفة معاوية، فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزهما وصحبتهما سعاد. ثم كتب إلى معاوية كتاباً يقول فيه هذه الأبيات:
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد
…
أوفى بنذرك في سر وإعلان
وما أتيت حراماً حين أعجبني
…
فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
اعذر فإنك لو أبصرتها لجرت
…
فيك الأماني على تمثال إنسان
فسوف تأتيك شمس ليس يدركها
…
عند الخليفة من أنس ومن جان
ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، فسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال: لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية
ثم أمر بإحضارها، فلما رآها رأى صورة حسناء لم ير أحسن منها، ولا مثلها في الظرف والجمال والقد والاعتدال. فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان فقال: علي بالأعرابي فجيء به وهو في غاية من تغير الحال. فقال: يا أعرابي، هل لك عنها من سلوة، وأعوضك عنها ثلاث جوارٍ نهد أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك؟
قال فلما سمع الأعرابي معاوية، شهق شهقةً ظن معاوية أنه مات بها فقال له: ما بالك بشر بال وسوء حال؟
فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن أستجير من جورك، وأنشد يقول:
لا تجعلني فداك الله من ملك
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاداً على حيران مكتئب
…
يمسي ويصبح في هم وتذكار
أطلق وثاقي ولا تبخل علي بها
…
فإن فعلت فإني غير كفار
ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد. ثم أنشد:
أبى القلب إلا حب سعدى وبغضت
…
علي نساء ما لهن ذنوب
فقال معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها. فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك.
قال: افعل - فقال: ما قولين يا سعاد؛ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده؟ أو