الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة الدكتور مصطفى جواد
على الطبعة الأولى
تقدمة وتبيان
أعظم كتب الألقاب في تاريخ العرب هو «معجم الألقاب» تأليف كمال الدين أبي الفضل عبد الرزّاق بن أحمد المعروف بابن الفوطيّ البغدادي المؤرّخ الأديب المولود ببغداد سنة 645 هـ، المتوفّى بها سنة 723 هـ.
وتاريخ الألقاب عند العرب والمسلمين واسع الميدان، بعيد المدى (1)، قد ألّف فيه المتقدّمون والمتأخّرون، والقدامى والمعاصرون، ممّا هو مذكور في فهارس الكتب، وتراجم العلماء. إلاّ أنّ «مجمع الآداب المرتّب على معجم الأسماء في معجم الألقاب» الذي أشرنا إلى مختصر اسمه أبسط تأليف في الألقاب، وتلخيصه المعثور على جزءين منه، لا يزال يحتل الصدارة في هذا الفنّ من فنون التاريخ؛ بما حوى من أفانين الألقاب ووفارة الملقّبين؛ وما تحلّى به من الترتيب والجدولة طولا وعرضا، وأفقيّا وعموديّا (2)، وتلك الوفارة في الملقّبين كان نتيجة لكثرة مطالعة المؤلّف لكتب التاريخ والأدب، ولكثرة الكتب في ذينك الفنّين. وقد
(1)(وأغرب ما في تطوّر «اللّقب» استعماله للمدح والتعظيم بعد أن كان للذم والاحتقار، قال الله تعالى: «ولا تنابزوا بالألقاب».وقال فزارة: أكنّيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقّبه فالسوأة اللّقب)
(2)
(راجع النموذج المصوّر من الأصل في هذا الكتاب).
تهيّأ له ذلك بكونه، سنين كثيرة، من القوّام على شؤون أعظم دارين للكتب في عصره، وهما: دار كتب المدرسة المستنصريّة ببغداد؛ ودار كتب الرّصد بمراغة في أذربايجان، فلذلك يعدّ كتابه أجزل كتب الألقاب فائدة، وأجمع كتب التاريخ للتراجم ذوات الألقاب، مضافا إلى أنّه أرّخ ملوكا وسلاطين وأعيانا وعلماء وأدباء وشعراء وذوي فنون، في عصر قلّ فيه المؤرّخون، وقلّت فيه التواريخ في المشرق، وندرت كتابة التاريخ فيه باللغة العربيّة، وإلى أنّه لم يقتصر في التأريخ على قطر دون قطر؛ ولا على عصر دون عصر، منذ أيّام الجاهليّة حتى الرّبع الأوّل من القرن الثامن للهجرة؛ فنشر هذا التراث العظيم الكريم كان من أوجب الواجبات الأدبيّة.
وفي هذه السنوات الأخيرة توفّر أحد الباحثين الفضلاء، وهو حسن باشا أحد الدكاترة في التاريخ ومدرّسيه في كليّة الآداب بجامعة القاهرة، على تأليف كتاب في الألقاب (1) الاسلاميّة؛ وممّا يبعث على الاستغراب في عمله الأدبي أنّه لم يطّلع على تلخيص معجم الألقاب الذي هو العمدة في هذا الباب، ولا استفاد من كتاب الحوادث
…
ولا من الجامع المختصر لابن الساعي. وها نحن أولاء نترجم المؤلّف بشيء من التفصيل.
(1)(هو كتاب «الألقاب الاسلامية في التاريخ والوثائق والآثار» طبع بمطبعة النهضة المصرية سنة 1957 م في 577 صفحة مع الفهرس).
ابن الفوطيّ (1)
642 -
723 هـ
1244 -
1323 م
في اليوم السابع عشر من المحرم سنة 645 الهجرية، ولد في درب القوّاس من المحلّة الخاتونية الخارجة عن دار الخلافة العبّاسيّة في شرقيّ بغداد، وليد مبارك العمر، مأمول الخير، منتظر المستقبل، هو الوليد الذي قدّمه إلينا التاريخ باسم «كمال الدين أبي الفضل عبد الرزّاق بن أحمد بن محمد المعروف بابن الفوطيّ البغداديّ المؤرّخ الأخباري المحدّث» .
ولد ابن الفوطيّ في بيت من بيوتات أعيان الحنابلة، كان يدّعي النسب الى العرب، والانتماء الى الأمير الكبير معن بن زائدة الشيباني منهم؛ وكانوا من أهل مرو بخراسان، كالإمام أحمد بن حنبل الشيباني، صاحب المذهب، ومن قبيلته نفسها على حسب دعواهم، وكانت محلّتهم الخاتونية الخارجة بحكم مجاورتها لدار الخلافة العبّاسيّة من مواطن أرباب الثراء، وأهل الوجاهة والجاه، وذوي الجدّة واليسار، ولمّا ولد دعي أحد المنجّمين؛ وهو مجد الدين أبو الفرج محمّد بن
(1)(ينبغي أن يلفظ بضمّ الفاء وفتح الواو نسبة إلى جمع الفوطة كعادة العرب في نسبتهم أهل الفنون والصناعا والمهن والبضاعات كالأمشاطيّ والخرائطيّ والطيوريّ والقدوريّ والمحامليّ، فإذا أمكن صوغ «فعّال» عدلوا إليه وهو أقدم من ذلك كالعطّار والخمّار والحدّاد «غير السجّان»، قال السمعاني في الأنساب في ضبط الفوطيّ عموما: «الفوطيّ بضمّ الفاء وفتح الواو في آخرها الطاء. هذه النسبة الى الفوط وهي نوع من الثياب» ولا وجاهة لغير هذا الوجه من النسب).
محمّد الموصليّ المنجّم، لعمل مولده على حسب طريقة أهل التنجيم، فعمله كما كان يعمل عليه القوم لأولادهم.
وكان والده تاج الدين أحمد بن محمّد من الوجهاء والمختلفين الى مجالس الزهّاد والصالحين والمحدّثين والادباء والمتصوّفة؛ وكان أخوال والده من بيّاعي الفوط فعرف بابن الفوطيّ نسبة الى أخواله، وجاء في نسبه أيضا «ابن الصابونيّ» ، وكانت والدته من بيت معروف بالرئاسة والتقدّم في الدولة العبّاسيّة؛ ومشهور بنسب «الظهيريّ» فعمّها كمال الدين أبو شجاع محمد بن سعيد بن الظهيريّ، كان تارة حاجب باب النوبيّ كما في سنة 583 هـ من خلافة الإمام الخليفة العظيم الناصر لدين الله؛ وتارة حاجب باب المراتب كما في سنة 602 هـ؛ وكان حاجب باب يتولّى شؤون الأمن والشرطة في بغداد؛ وحاجب باب المراتب يتولّى حجابة آخر أبواب دار الخلافة، وهو مدخل شريف من مداخل دار الخلافة.
كان مولد ابن الفوطيّ في خلافة المستعصم بالله الشهيد آخر الخلفاء العبّاسيّين ببغداد، وكانت خلافته برهة اختلال في شؤون الدولة، واضطراب في الحكم والسلطان، وتضاؤل في جسم الدولة العبّاسيّة، أدت الى نحولها وانحلالها، ثمّ الى سقوطها وزوالها على يدي الطاغية هولاكو بن تولي بن جنكيز خان التّتار.
وكان لابن الفوطيّ أخ اسمه عبد الوهاب، ولقبه بدر الدين، لم نعلم من أحواله شيئا سوى ما هو آت في سيرة أخيه.
وقد نشّئ ابن الفوطيّ تنشئة أبناء الأعيان في ذلك الزمان؛ وحضر مند الصّبا مع والده مجالس الوعّاظ والصوفيّة المذكّرين والادباء الرّواة؛ ولقي معه الزهّاد والدّعاة الى الله تعالى، فتبرّك بهم وباركوه على قلّة هذه الوجهة عند الحنابلة، وندور المولّين لها منهم، وأحضره والده أيضا مجالس كبراء المذهب الحنبليّ في أيّامه. واتّصل بأبناء الامراء الادباء؛ كما ذكر في ترجمة أبي نصر
محمّد (1) ابن الأمير سيف الدين أيدمر المستعصميّ، مؤلّف كتاب «الجوهر الفريد وبيت القصيد (2). قال: هو «من أبناء الامراء الأعيان العظماء، ذكر لي أنّه ولد ببغداد رابع رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة
…
وكان بيني وبينه معرفة وصداقة واتّحاد منذ سنة خمسين [وستمائة]، ولمّا قدمت بغداد كنت أتردّد الى خدمته ويشرّفني أيضا بحضوره
…
».
ودرس مقامات الحريريّ، وسمع الحديث النّبويّ مع ذي قرابته قوام الدين أبي الفضل عبد القاهر بن محمد بن الفوطيّ. فقد قال في ترجمة: «كان شابّا ذكيّا، اشتغل (3) على والده موفّق الدين، ودرس عليه كتاب الألفيّة لابن معطى، وكان رفيقي في حفظ المقامات الحريريّة وسماع الأحاديث النبويّة، على شيخنا الصاحب الشهيد محيي الدين يوسف بن الجوزي استاذ الدار (4). وسلم ببغداد في الواقعة؛ وتعلّم صنعة التجارة ومهر فيها، ونسب إليه أنّه كان يكاتب ملوك الشام، وأرادوا تصديعه فهرب الى دمشق (والفرار ممّا لا يطاق من سنن المرسلين)،
(1)(ترجمته في الملقّبين بفلك الدين من هذا الكتاب، وذكر له ابن الطقطقي خبرا في التاريخ الفخري حدّث به المؤلف في وقعة بغداد المشهورة سنة 656 هـ واستباحة هولاكو، وكان ابن أيدمر في عسكر الخليفة المعتصم بالله).
(2)
(كتاب جمع فيه مؤلّفه ما يتمثل به من أبابيت الشعر على حسب حروف المعجم منه جزء بدار كتب مشهد الامام عليّ الرضا بطوس العتيقة المعروفة اليوم بمشهد ولم يعرف أحد اسمه، وذكره مؤلّف أعيان الشيعة «1: 411» ولم يعرفه، وفي خزانة الفاتح باستانبول نسخة من الجزء الأوّل وثلاث نسخ من الجزء الثاني، وكلّها باسم «الدرّ الفريد وبيت القصيد» تأليف محمد بن سيف الدين أيدمر «1: 448» من فهرس المخطوطات المصوّرة بالجامعة العربية).
(3)
(اشتغل في اصطلاحهم أيامئذ معناه «درس» و «أشغل» معناه «درّس»، وكثر استعمالهم للإشغال أي التدريس والاشتغال أي الدراسة).
(4)
(يعني استاذ دار الخلافة العبّاسيّة وهو ممّن قتلهم هولاكو صبرا سنة 656 هـ).
ومات بدمشق سنة سبع وثمانين وستمائة
…
(1)».
وكانت دراسته المقامات على موفّق الدين أبي محمد، عبد القاهر بن محمد ابن الفوطيّ المذكور؛ قال في موجز سيرته: «كان من الادباء الأعيان والفضلاء البلغاء، أرباب البيان الفصحاء
…
وكان خال والدي، وحفّظني المقامات الحريريّة، وأسمعني بقراءته جامع الترمذي وغيره
…
واستشهد في الوقعة سنة ست وخمسين وستمائة».
ومن الأحاديث التي سمعها على محيي الدين يوسف بن الجوزي «الأحاديث الثمانيّة» ، ويرويها محيي الدين بن الجوزي عن الخليفة المعتصم بالله.
ومن الشيوخ المدرّسين الذين حضر مجالستهم، كمال الدين أبو الحسن علي بن محمّد بن وضاح، الشهراباني الأصل، البغدادي، الفقيه الحنبلي مدرّس الحنابلة في المدرسة المستنصرية، قال:«وقد رأيته قبيل الواقعة وتردّدت اليه في خدمة والدي - رحمهما الله -» ، ومن الشيوخ الادباء الرّواة الذين حضر مجالسهم مع والده، كمال الدين أبو الحسن علي بن عسكر، الحمويّ الأصل البغدادي، ووالده عسكر الحموي التاجر كان سيّد ياقوت الروميّ، والى نسب سيّده عسكر انتسب «حمويّا» ، فعرف بياقوت الحمويّ. قال في سيرته الموجزة:
«كان صدرا كاملا، ورئيسا فاضلا، وكان من جيراننا في المحلّة الخاتونية الخارجة، وحضرت مجلسه في خدمة والدي تاج الدين [أحمد] في جماعة كانوا يسمعون عليه (معجم الادباء) بروايته عن مصنّفيه ياقوت مولاهم. ثبّتني في ذلك شيخنا جلال الدين بن عكبر» ، وإنّما ثبّته جلال الدين عبد الجبّار بن عكبر، لأنّه كان صبيّا يومئذ.
وحضر مجلس فخر الدين أبي الحسن علي بن محمد الخفاجي الشاعر الناسخ قال: «كان صديق والدي، رأيته كثيرا، وسمعت إيراده للأشعار
…
وكان
(1)(راجع ترجمته في الملقّبين بقوام الدين من هذا الكتاب).
طيّب الإنشاد، عذب الإيراد، توفّي بعيد الواقعة».
وكان من رفقائه في أوّل سماعه أيام الصّبا مجد الدين أبو المعالي نصر بن عبد الله بن أحمد الحربي الحنبلي الأديب، ومحبّ الدين أبو سعد أحمد بن عبد الواحد البصريّ الشاهد العدل؛ وقوام الدين أبو الفضل محمد بن الفوطيّ المذكور آنفا.
وقد ظهر ميله مبكّرا الى الأدب والتاريخ وعلم النّسب، فضلا عن علم الحديث المشهور بين الحنابلة، وزاد من إقباله على علم النّسب وجدانه أهله ينتسبون الى معن بن زائدة الشيبانيّ، وقد ولّد ذلك في نفسه التفوّق والترفّع، وإن عرف بالتواضع ووطاءة الجانب في آخر عمره، لما قاساه من أحداث الزمان، ولما أناءه من عبء السنين الفادح. وذلك الولوع بعلم النّسب ساعد على تكوّن ملكته التاريخيّة؛ فلا أنساب بلا تاريخ؛ وقد أخذ منذ عنفوان شبابه يقيّد مواليد الشيوخ ووفياتهم، ويثبّت في مجموعه فوائدهم، على عادة طلاّب الحديث الفوقة.