الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقامته في مراغة وتكوّن ثقافته وعائلته
باشر ابن الفوطي الخزن بخزانة كتب الرصد بمراغة؛ وطالع كثيرا من كتبها على اختلاف أنواعها وموضوعاتها، وجمع منها مجاميع، واقتبس، وصنّف، وألّف، واستخلص لنفسه منها، ونسخ لغيره توريقا، واتّصل بفئات من العلماء والادباء وأرباب الفنّ وأهل السياسة، على تباين أجيالهم واختلاف بلادهم ومللهم؛ فاتّسعت ثقافته العلمية، وثقافته الأدبية، وثقافته الاجتماعية. وخرج من الدائرة الضيّقة التي كان فيها ناشئا، وسلخ صباه عليها، وقضى عنفوان شبابه بها. ورأى في مراغة - وهي يومئذ عاصمة الدولة الايلخانية - ما لم يره في مدينة اخرى سوى بغداد، من مظاهر التمدّن، ومجامع العلماء، وزمر الواردين من طلاّب العلم، وروّاد الجاه، وخطّاب الولاية والإمارة والوزارة، وعبّاد الملك والمناصب، والمعتفين والمسترفدين والشاكرين والشاكين. فضلا عن رخاء العيش وهناءته والرفهنية والدّرز للذين لا يزاولون الحرب والسياسة بأنواعها.
وتزوّج ابن الفوطيّ بمراغة زوجا لمّا أقف على جيلها ولا على مذهبها. إلاّ أنّ الغالب على الظنّ أنّها كانت حنبليّة المذهب مثله؛ فولدت له - أو اخرى غيرها وهو الظاهر - من الذكور أبا المعالي محمّدا (1) وأبا سهل؛ ولم أقف على غير
(1) (عثرت على ترجمة له في ذيل تاريخ الذهبي تأليف تقي الدين بن قاضي شهبة الدمشقي في وفيات سنة «750 هـ» قال: «مولده في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع
…
ولبس من الرشيد بن أبي القاسم الخرقة، ولبسها الرشيد من شهاب الدين السهروردي وخرّج له والده مشيخته والحافظ زين الدين بن رجب أحاديث ثمانيّات وروى عنه، وكتب الخطّ على ياقوت المستعصميّ وأضرّ في آخر عمره ولازم المسجد وكثر تهجّده وعبادته»، وذكر له أبياتا زهديّة ثلاثة، وقد روى عنه ابن رجب المذكور في ذيل طبقات الحنابلة. وكون مولده في سنة 685 هـ يدلّ على أنّه ولد ببغداد).
كنيته المذكورة، وقد ذكر ابن الفوطيّ أنّ ابنه أبا سهل تزوّج بنت قطب الدين سنجر بن عبد الله الرومي الصاحبيّ. ومن الثابت عندنا أنّ ابن الفوطيّ ولدت له بنت بمراغة، ثمّ تزوّجها رجل خراساني مؤدّب اسمه علي بن عمر فولدت له مولودا سماه عمر، وكنّاه أبا المجد، ولقبه مجد الدين. قال ابن الفوطيّ في تلخيص سيرته: «مجد الدين أبو المجد عمر بن علي بن عمر الخراساني ثمّ المراغي المؤدّب
…
أبو المجد سبطي، ولد بمراغة سنة ثمان وسبعين وستمائة
…
».
وإذا حسبنا أنّ كلمة الولد تعني «الابن» في ذلك العصر وبعض ما قبله وبعض ما بعده، وكما استعمله هو وآخرون قبله يثبت عندنا أنّه كان له من الأولاد الذكور أكثر من اثنين، فقد قال في بعض التراجم:«وقد كتب الإجازة لي ولأولادي سنة ثمان وسبعين [وستمائة]» .
وقد ذكر ابن الفوطيّ مرارا رجوعه إلى بغداد سنة 679 هـ؛ إلاّ أنّه لم يذكر أنّه استصحب عائلته إليها، بل ذكر أنّه احتاج الى نفقة لعياله بمراغة؛ فأنفذ الى بعض الفضلاء بكتب من كتبه، ليرهنها عنده على عشرين دينارا؛ فأعاد إليه الكتب والدنانير تفضّلا منه.
كان رزق ابن الفوطيّ ممّا يجري عليه وهو طالب علم، وخازن كتب الرّصد، وناسخ ومورق للهوين المعنيّين بالكتب؛ فقد ذكر أنّه نسخ بمراغة سنة 666 هـ كتاب «الزّبدة (1) الطبّيّة» المجدول. وكان يتجر بالكتب فيشتريها ويبيعها، ولم يكن ذا سعة في الرّزق في مراغة، ولا في غيرها من البلدان التي أقام فيها، وقد ثبت عندنا أنّه بعد عوده الى بغداد كان ينسخ الكتب للناس توريقا أيضا، ويستوفي الاجرة للعيش (2) بها، وهذه القلّة في الرّزق أثّرت في سيرته، وذلك
(1)(جاء في كشف الظنون «زبدة الطبّ للخوارزمشاهي وهو مجلّد يشتمل على حقائق الأبدان الظاهرة ودقائقها الباطنة».وقال ناشره: «هو لزين الدين اسماعيل بن الحسن الحسيني الطبيب المتوفّى سنة 531 هـ» ولعلّه إيّاه أراد).
(2)
(من الكتب التي نسخها ببغداد كتاب «الأحكام المبنيّة على التنجيم» وهو محفوظ -
ظاهر فيما يقوله في أثناء التراجم من استرفاده واستعانته واعتفائه؛ ولا أخشى أن أقول: من استجدائه الأدبيّ.
وقد توفّي نصير الدين الطوسيّ، شيخ ابن الفوطيّ والحفيّ به والمفضّل عليه سنة «672 هـ» وبقي بعده «المجمع العلمي» الذي سمّيناه دار العلم والحكمة، والرّصد اللّذان أنشأهما بمراغة على أحسن أحوالهما في رعاية أبناء له ثلاثة فضلاء وجهاء، هم صدر الدين علي، وأصيل الدين حسن، وفخر الدين أحمد، وقد ولي أحمد بعد أبيه غالب مناصبه، وبقي ابن الفوطيّ على خزنه بخزانة كتب الرّصد؛ فكان بيده مفتاح الرّصد أيضا، ولبث في كنفهم ورعايتهم، وقد ألّف بمراغة فيما ألّف كتاب «تذكرة الرّصد» .وسمّاه في موضع آخر «كتاب من قصد الرّصد» ؛ وروى عن الزوّار نثرا وشعرا في مقاصد مختلفة، وأتقن اللغة الفارسية ليستطيع العيش في بلاد الفرس، ويعايش زوجته الفارسية اللغة، كما هو الظاهر وقرأ دواوين المشهورين من الشعراء الفرس ونثّارهم؛ كديوان المعزّي، والعنصريّ، واللاّمعيّ، وأشعار أحمد ابن نيّال المراغي ورسائله الفارسية؛ فضلا عن دواوين لشعراء عرب ورسائل لنثّار من نثّارهم. وقد ألّف مجموعا أدبيّا بالفارسية، ومدح رجالا بأنّهم يحسنون الفارسية، وفي ذلك دلالة على علمه بها.
وقد سمع ابن الفوطيّ في بلاد العجم، في كينونته الاولى بها، طائفة من شيوخ الحديث، وأهل الأدب والشعراء. وضمّن مشيخته للمحدّثين ما أشرنا اليه آنفا من تقييد الوفيّات بالمواليد، وإثبات الأحاديث والفوائد والأناشيد.
فممّن استجازهم لنفسه من أشهر المشاهير «سعدي» الشاعر الفارسيّ الكبير الشهير، صاحب الديوان المعروف، ومؤلّف «كلستان (1)» أي روضة الورد
= اليوم في خزانة الكتب الملّيّة بطهران من إيران، كتبه لأبي الحسن علي بن نصير الدين محمد الطوسيّ، ومنها على الظاهر الكامل في التاريخ لعز الدين بن الأثير، والمجلّد الثاني منه محفوظ بدار الكتب الوطنية بباريس).
(1)
(ترجمه الى العربيّة من المتأخّرين الاستاذ الأديب محمّد الفراتي ونشرته وزارة -
وغيره. وطاف ابن الفوطيّ في البلاد الفارسية، وأقام في عدّة بلدان منها، فقويت ثقافته بالدراسة، والنساخة، والمطالعة، والسّماع، والمحاضرة، والمحاورة، والمدارسة، والمجالسة، والمحادثة، والتطواف، فضلا عمّا كان حفظه في أيّام صباه ببغداد، وقد كنّا ذكرنا بعض ما بعثه على الولوع بالأنساب والتاريخ والتراجم، وكانت حصائل ثقافته الأدبية، تآليفه التي اضطمت عليها صفاح التاريخ، والتي ذكرت أسماؤها في كتبه، ونرى من الواجب علينا أن نذكر أنّنا لم نجد له أثرا حكميّا ولا فلسفيّا، مع وصف المؤرّخين له بالحكيم والفيلسوف، ومع ذكرهم أنّه درس الحكمة والفلسفة على النصير الطوسيّ، ومع قوله: إنّه كان يكتب الدروس لبعض التلامذة.
(1) - الثقافة والإرشاد القومي بدمشق سنة 1381 هـ - 1961 م أوّل كتاب من سلسلة روائع الأدب الشرقيّ).